للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وشرعت أسرح طائر الطرف في أطرافه وصفحاته فاقتطف ما طاب لي من ثماره اللذيذة وفوائده الجليلة واكرع شيئاً لا يقدر من ينابيعه العذبة التي ترتاح إليها نفس كل فاضل أديب مشجون. . . وبقيت على تلك الحالة إلى أن حكم عليّ سلطان النوم فغمضت عيني فرأيت في الكرى كأني في فضاء واسع ليس له انتهاء وأنا أسير فيه سيراً حثيثاً واقطع ما فيه من الفيافي والقفار من وعرة وسهلة لا يأوي إليها إلا الوحوش. ثم وجدتني كأنني تحت جبل شاهق فرقيته حتى علوت ظهره فوجدت هناك غاراً فكمنت فيه منتظراً ما يفعل بي الدهر الخؤون. . .

فبينما أنا أترقب تلك الساعة الهائلة إذ بصرت نقعاً عظيماً ثار من جوف الفلاة وما لبث أن اقشع فرأيت حيدراً وخيتعوراً وخنوصاً نتواثب حتى صارت عند أسفل الوتد وأنا أتتبعها بعيني لأرى نتيجة تواثبها. ولما أنهكها التعب واللغب أخذ الخنوص يتهكم من هذين الحيوانين كما يتهكم الجاهل من الرجل العاقل وهو يتهجم عليهما تارة من اليمين وطوراً من الشمال وهما يتذللان له خوفاً من جوره واعتسافه كما يتذلل المظلوم بين أيدي الظالمين. . .

فلم تمض بضع دقائق إلا وساعدت التقادير ذلك الغشوم المارق أي الخنوص فوثب وثبة على الأسد وأذاقه كأس المنون بأن بقر بطنه بنابه الحاد. فلما رأى الخيتعور ما حل برفيقه المحبوب وما صار إليه وتحقق إنه قد صرع على الأرض يختبط بدمه أطرق هنيهة ثم رفع رأسه ونادى صارخاً بملء فيه: واحزناه واأسفاه عليك أيها الشجاع الباسل! واويلاه كيف خانك هذا اللعين ألفظ الطباع! وما قال هذه الكلمات إلا وتساقطت الدموع منحدرة من مآقيه كأنها الغيث من الجون. . .

ولما رأى أن الأمر قد مضى وأن لا رجوع لرفيقه إلى الحياة دنا رويداً رويداً من القاتل الطاغي الباغي ثم وقف بازائه وشرع يخاطبه بكلام تقشعر له الجلود ويلين الجلمود. وهذا بعض ما حفظته: أيها المغرور بنفسك المعجب بقوتك وفعلك، إنك لقد فتكت فتكاً ذريعاً بسيدنا المبجل وفجعتنا بتلك الفاجعة المدلهمة. فوالله إنك لم تفعل فعلتك هذه الشنعاء إلا لتقبض على زمام الأمور وتستولي على مقام ذلك الغضنفر، ولكن يأبى الله أن يجعلك بدلاً منه لأنك من عنصر الأدنياء الأوغاد الغدارين. . .

<<  <  ج: ص:  >  >>