للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[افتقار اللغات قاطبة إلى الاستعانة بالإشارات]

[واللهجات]

يستحيل أن نظفر على وجه المعمورة بإنسان ينبعث للكلام هنية، فلا يحتاج إلى الاستعانة في تأدية أغراضه بحركات، ولهجات بأصوات متباينة الأجزاء. صعودا وهبوطا، وشدة ولينا، للدلالة على النفي والإثبات، والرفض والقبول. والأمر والنهي، والسخط والرضى، والجلد والجزع، إلى غير ذلك.

ولعل هذه الحالة ورثها البشر عن عهد كان يؤدي فيه مقاصده بالإشارات، تصحبها أصوات غير هجائية أو هجائية أحادية ثم ثنائية حتى بلغ الكمال في التعبير: لكنه كمال نسى لا حقيقي، إذ لو كان حقيقيا، لاستطاع الإنسان أن يعبر عن جميع مقاصده مستغنيا عن الإشارات واللهجات وهذا ما يخالفه الواقع.

فلو فرضنا أن أنسانا كلف الأعراب عما يدور في خلده. على شرط سكون جوارحه، وهدوء عينيه، وركون اساريره، واستمر حديثه بضع دقائق. لوجدت علائم الضجر بادية على وجهه، ولا يقتصر الضجر على المحدث بل يشاركه فيه المصغون إلى حديثه فيستفزهم الملل كما إنه لا يطمئن إلى حديثه في إماطة اللثام عن رغائبه كما يجب.

وهذا الافتقار يختلف باختلاف المواضيع، فمنها ما يحتاج المحدث إلى الافتنان فيه، كأن يكون الموضوع خطابيا، أو تمثيليا، يراد به حسن الوقع في النفوس؛ فكم من رواية كرر تمثيلها فاستحملت تارة، واستهجنت تارة أخرى مع أن الألفاظ واحدة: لكن الذي ألقى تلك الألفاظ في إحدى المرات كان امهر في إتقان الحركات والتفنن في الإشارات ممن ألقاها في المرة الأخرى.

إلا أن الافتنان في مثل هذا أمر فضلة لأن التأثير وحسن الوقع ليسا من غايات الكلام المباشرة. فإن فقرات الرواية تفهم بمجرد إلقائها، سواء أتفنن فيها، أم لم يتفنن؛ بل للغاية المباشرة للكلام هي الإفهام لا غير.

<<  <  ج: ص:  >  >>