للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلنجعل موضوع بحثنا قضية الإفهام فحسب، بيد أن ذلك لا يعيننا على إنقاذ اللغات من

النعت بالافتقار.

ألا ترى إنك إذا قلت: (ما أخذت كل الدراهم) مثلا احتمل كلامك وجهين: أنك أخذت بعض الدراهم، وانك لم تأخذ منها شيئا، وتضطر في التعبير عن المقصد الأول إلى إظهار شدة الارتباط بين الفعل والمفعول به، بتعجيل النطق بالكاف بعد التاء، وتضطر في التعبير عن القصد الثاني إلى أحداث فترة لطيفة بينهما.

نعم أن الناطق ليفعل كل ذلك بسائق الفطرة، دون الانتباه لسرها الخفي. ففي الفرض الأول اعتبر أن الجملة كانت في الأصل مثبتة، ثم ادخل عليها حرف النفي، أي أن أصل الكلام كان: (أخذت كل الدراهم) ثم سلط السلب عليه لثلم كلية الأخذ، فانقلبت جزئية فكانت تقوية الاتصال بين الفعل ومفعوله إيذانا بأنهما مقترنان من قبل، أي قبل إدخال حرف النفي، ولولا ذلك، لما انتقل ذهن السامع إلى الغرض.

وفي الفرض الثاني أحدث فترة بين الفعل ومفعوله، للدلالة على أن الفعل، إنما سلط على المفعول به بعد مصاحبته للسلب.

ومن هذا الباب قول الترك: (بر آلما يدم) مثلا، وذلك أنهم قد يقرنون الكلمة بلفظة (بر) للدلالة على الوحدة، وقد يقرنونها بها للدلالة على التنكير. فترجمة العبارة السابقة: (أني أكلت تفاحة واحدة) أو (أكلت تفاحة) فإذا أراد المتكلم المعنى الأول نطق بالراء بإزعاج كأنه يحاول مصادمة مدع إنه أكل أكثر من ذلك، وإذا أراد المعنى الثاني نطق بها بهدوء وسكون لأنه لم يقصد بلفظة (بر) معناها الأصلي المستحق للاهتمام، بل أتى بها لتكون أمرا عرضيا كالتنوين في اللغة العربية.

ولعل من دواعي اختراع البشر للموسيقى، عجز اللغات عن ترجمة ما تفيض به العواطف، مما لا يستطيع اللسان ترجمة أكثره، إذ تكتظ الجوانح بما لا قبل لها وبه وتضطر إلى نفث ما عندها طلبا للتخفيف عن النفس وإذ لا تصادف بغيتها عند اللسان، تفزع إلى الآلات التي يكل اللسان عن مجاراتها، من عود اخرس، ووتر ابكم، إذا اجتمعا كانا افصح ناطق.

محمود الملاح

<<  <  ج: ص:  >  >>