للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبعد أن تكلم كلاماً يؤنس الغزلان، ويوقظ الوسنان، أخذ يلتفت ذات اليمين وذات اليسار، منزهاً الطرف بين الأشجار والأزهار، مستأنساً مع أعوانه وهو في أحسن مقام، وأطيب أقوام، فوقع بصره عليّ فوجدني جالساً لا أتمكن من القيام، لما اعتراني من شدة الغرام، وكثرة الهيام، فأشار إليّ بالنزول، وأن لا أبقى في محلي كالسجين أو كالمغلول، ثم رأيته مقبلاً أليّ، مراقباً ما أحوالي. فقلت في نفسي: إنك لقد وقعت في بلاء عظيم، لدخولك في موطنٍ خاص بهذا الأمير الكريم.

وبينما كان الهلع قد أخذ من كل مأخذ، تقدم أليّ وحياني أحسن تحية، ورحب بي كل الترحيب، فرددت عليه السلام، مجيباً إياه بعبارات الإجلال والإكرام، ثم قال لي: لا تخف يا بني، وارك لا تعرفني، فقلت: لا يا سيدي: فقال أنا الذي طبق أسمي الخافقين، وسمع به سكان ديار القطبين، أنا الذي اسمه (العفاف، أنا الذي أقع من القلب في الشغاف. أنا مزكي النفوس، أنا زينة كل عروس، أنا سر السعادة، أنا مرقي الصلحاء إلى أوج الإمامة والعبادة. فلما سمعت هذه الكلمات، وما حوت من المعاني الطيبات، سكن روعي، واطمأن قلبي، وانقشعت من سماء أفكاري، سحب الخوف والفزع، وتذكرت هذه الأبيات:

لك منزل في القلب ليس يحله ... إلا هواك وعن سواك أجله

يا من إذا جليت محاسن وجهه ... علم العذول بأن ظلماً عذله

الوجه بدر دجى عذارك ليله ... والقد غصن ثرىً وشعرك ظله

هذه جفونك أعربت عن سحرها ... وعذار خدك كاد ينطق نمله

عار لمثلي أن يرى متسلياً ... وجمال وجهك ليس يوجد مثله

هل في الورى حسن أهيم بحبه ... هيهات أضحى الحسن عندك كله

وما كدت أفرغ من إنشاد هذه الأبيات، إلا وفزعت في نومي واستيقظت وقد انطبعت صورة (العفاف) في مخيلتي فقلت في نفسي: لأدعون الناس إلى حب هذا الخلق البديع، ذي الحسن السنيع، لما يورث النفس من المناقب السامية، والفضائل العالية. إن ربك لرقيب، وهو المجزي المثيب. فاجعلنا اللهم ممن يخافك ويترقب منك، ولا تجعلنا أن نصرف وجهنا عنك. اللهم آمين

(٢٠ - ٨٠٤٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>