تكون مستندا بيد الإفرنج ليطلعوا على حاضرتنا منذ أوغل عهدها في القدم إلى هذا العهد الفيصلي. لكن ما كان شديد عجبنا لما وقفنا على هذه الحقيقة وهي: أن تاريخ بغداد قبل العصر العباسي وقع في صفحتين: وفي هاتين الصفحتين لا تجد إلا أصل كلمة بغداد في منسلخ الأجيال! وأما بعد هذين الوجهين فإنك تقف على أحداث بغداد منذ تأسيسها على يد الخليفة العباسي إلى يومنا هذا. ووقائع الحاضرة مسرودة فيه سردا بدون رابط يربطها فالكتاب عبارة عن جدول وقائع لا غير؛ وحيثما جاءت تفاصيل طويلة؛ تراها خالية من روح النقد. ولا يسع هذه المجلة ذكر ما هناك من غرائب تلك الأقوال: إلا إننا نجتزئ بذكر شاهد على ما نقول ليكون القارئ على بينة مما يطالع ولا يركن إلى كل ما يذكره المؤلف.
فقد قال مثلا في ص١٤:(وامتدت القصور والمعاهد العلمية على ضفتي دجلة وكثرت القصور (كذا بعد أن قال عنها أنها امتدت) الفخمة والمنتزهات (كذا) والحدائق والمصانع: وانقسمت بغداد يوم ذاك إلى أربع وعشرين محلة (كذا) لكل محلة شارع ومسجد وحمام، وكان فيها أربعة آلاف معمل للزجاج وأربعمائة طاحونة مركبة على الماء، وثلاثون ألف معمل للكوز (كذا) وخمسة جسور اثنان عند باب الشماسية. . . .) ثم قال في ص١٥:(فقد
كان أهلها نحو المليونين نسمة. . . .) (أي في عهد الرشيد)
قلنا: لم يكن في سابق العهد مدن كبار فيها مليونان. ولو فرضنا أنها وجدت فلا يمكننا أن نتصور انه كان فيها (٢٤٠٠٠) محلة وكان لكل محلة شارع ومسجد وحمام إذ يصيب كل محلة ٨٤ نسمة. والعاقل لا يصدق ذلك. نعم: إن الأقدمين كانوا لا يتورعون من ذكر الأرقام فعند بعضهم كما عند بعض المعاصرين الخمسة والخمسون والخمسمائة وخمسة الآلاف وخمسة الملايين شيء واحد إذ المهم عندهم هو الخمسة لا ما وراءها من الأصفار.
وكان لكل سبعين نسمة معمل كيزان. وهذا أيضاً من الخرافات والأقوال الخالية من كل نقد. إننا لا ننكر أن بعض المؤرخين ذكروا تلك الأرقام الهائلة