للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي يدين بطاعة الحكومة، وأصبحوا في العهد الأخير كالأسلاك الكهربائية المفرغة من الشحنة ... ليس فيها سلب ولا إيجاب ...

غاب عن فرنسا- وهي تحوك هذا التدبير- ما يغيب عن كل مستكبر جبار، وهو درس القابليات في الأشياء، ولو درست لهداها الدرس إلى الحقيقة، وهي أن الإسلام والعروبة شيئان ليست فيهما قابلية الذوبان والانمحاء، لأن فيهما من أثر يد الله ما يعصمهما من ذلك، وعليهما من أصباغ الشرق الخالدة ما يحفظهما من التآكل والتحاتّ، ولو أن فرنسا امتهنت الإسلام في ثورة التغلب الأولى ثم فاءت إلى الرشد لكان لها شبه العذر لأن الإجراءات العسكرية دين على حدة ليس فيه حلال وحرام، وليس فيه عبادة ولا معبد، وليس فيه حدود ولا حرمات، ولكنها تمادت على امتهانه إلى اليوم في أطوار كلها سلم، وكلها اطمئنان، فأفصح الأخير من أعمالها على الأول من مقاصدها، وإنها لشواهد لا تستطيع فرنسا تكذيبها ولا نقضها، ولا نحتاج نحن إلى توضيحها وتزكيتها.

...

احتلت فرنسا هذا الوطن فوجدت فيه دينًا قائمًا بأهله، تقوم به هيأة دينية، تشرف عليها حكومة إسلامية بصفتها مسلمةً لا بصفتها حكومة؛ وللأمير المسلم حق الإشراف على الدينيات باسم الإسلام، فخيل إليها التعصب- وهي مسيحية- أن دينًا ينسخ دينًا، وإن كانت لا تعتقد أن نبؤة تنسخ نبوة، وأنها- بقوّتها وجبروتها- تستطيع أن تغالب الله وتعانده في أحكامه، فتنسخ لاحق الأديان بسابقها، ففعلت فعلتها بهذه النية، وبهذا القصد، ولهذا الغرض، ووجدت في هذا الوطن نوعين من الأملاك العامة: أملاك الحكومة من قصور للأمراء وإدارات لمصالح الدولة وثكنات لجندها، وأملاك الدين من مساجد تقيم الشعائر، وأوقاف تقيم المساجد، وتحقق وجوه البر والإحسان، وقد حبسها المسلمون على المسلمين لا على الدولة، ولكن فرنسا المنحرفة على الجمهورية الأولى، المتطلعة إلى الجمهورية الثانية - اعتبرت كل ما وجدته في الجزائر من النوعين إرثًا عن الدولة التركية، وغنيمة من غنائم الحرب معها، وليت شعري ... حين عمرت الثكنات بجنودها المقاتلين، وعمرت الإدارات بحكامها الإداريين، لِمَ لمْ تعمر المساجد برجال الكنيسة المسيحيين؟ لا ... بل يجب أن ننصفها ... فقد حوّلت بعض المساجد الكبرى كنائس، وعمرتها برجال الكنيسة المسيحيين ... وناهيك بمسجد "كيتشاوة" العظيم الذي صيرته "كاتدرائية" عظمى في العاصمة وكأنها فعلت ذلك لتجعله عنوانًا لما تبيته للإسلام من شر، ونذيرًا للمسلمين بما يترقبهم في دينهم من وبل، ودليلًا ماثلًا على أن احتلال فرنسا للجزائر كان حلقة من الصليبية الأولى، ولا غرابة في ذلك، فإن فرنسا الاستعمارية كانت- وما زالت- تفور باللاتينية

<<  <  ج: ص:  >  >>