للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بارد جاف متخاذل خاذل لحافظه، إذ يوهمه خلاف الواقع، ومنه ومن أمثاله خذل المتأدبون بكتب النحو الذين قعدت بهم همّتهم عن التأدب بلغة العرب من شعرهم وخطبهم، ولم يحصل واحد منهم ملكة صحيحة في هذه اللغة ولا ذوقًا صحيحًا في أدبها، والواجب في الأمثال أن تكون جملًا حكيمة ذات معان مستقيمة وألفاظ قويمة حتى يحصل الحافظ لها فائدتين: الحكم اللفظي والمعنى الذي يترك أثرًا في النفس، ومن مجموع هذه الأمثلة يتكوّن الأدب والأديب. وقد نعى ابن خلدون في زمنه هذا الذي نعيناه وانتقد من مزاولي النحو ما انتقدناه- وهو لعمري- نقد صريح ما عليه غبار.

وانظر قولهم "لا تأكل السمك وتشرب اللبن" كيف لعب به الزمن وتعاوره الاستعمال حتى أصبح ما ليس بصحيح فيه صحيحًا وأصبح قاعدة طبية، وما هو من الطب ولا قاله طبيب ولا هو بصحيح في الواقع والتجربة ولا بمُطّرِدٍ ضرره على فرض وقوع ضرر منه في جميع الأمزجة، وقد استعمله النحاة مثالًا لحكم لفظي فأدّوا مرادهم به على أكمل وجه، ولكن لما لم يكن معناه صحيحًا أوقع أممًا وأجيالًا في الخطأ، فحفظه الناس ونقلوه من الاحتجاج به على حكم أعرابي إلى الاستشهاد به على حكم حيوي، وأصبح الناس يتحامون الجمع بين اللبن والحوت عن عقيدة قرّرها في نفوسهم هذا المثال، وإذا كانت في المِعَدِ معدة ضعيفة تتأثر من الجمع بين غداءين، فمحال أن تكون حجة على معد بني آدم في علم أو عالم الكروش.

أما أنا وحياتك- كما يقول الزاهري- فإنني ما رأيت أصلح لمعدتي من الجمع بين السمك واللبن والفضل لهذه الطبيعة التي لا تقلد في السفاسف.

((فصل))

ورجز الضبّ الذي أشار إليه المعرّي وانتقد على ابن السكيت الاحتجاج به أصله مزعم من مزاعم العرب التي لا حقيقة لها، إذ زعموا أن الحيوانات كانت كلها تتكلّم ونحلوا بعضها كلمات وجملًا وأبياتًا من الشعر، وليس وضعهم لما وضعوا من هذا من ذلك النوع المعروف عند جميع الأمم، وهو وضعهم أشياء على ألسنة الحيوانات إيغالًا في الحكمة وتطرقًا لتربية النفوس البشرية وسوقها لفضيلة أو صدّها عن رذيلة، فإن هذا النوع من الأدب السامي هو نمط من التربية الصالحة كما في كتاب "كليلة ودمنة"، ولكن العرب كانوا يعتقدون هذا اعتقادًا، وإن لم يكن عامًا فيهم. وفي شعر أمية بن أبي الصلت المتأله بيت في تقرير هذا المعنى، ولم أتذكر الآن ألفاظ هذا البيت، وقد سمعت من العوام وشاهدت من يعتقد هذه العقيدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>