للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فصل الدين عن الحكومة (١٧)]

... لمحات تاريخية *

ــ

احتلت فرنسا هذا الوطن بالقوّة، وبينها وبينه بحر فاصل، وبينها وبينه دينان متخالفان، وجنسان متضادان، ولسانان متباينان، وبينهما- مع ذلك كله- أخلاق متنافرة، واجتماعيات متغايرة، بل بينهما شرق وغرب بكل ما بين الشرق والغرب من فروق، وإذا تباينت المقومات بين جنسين كل هذا التباين، كان تسلط أحدهما على الآخر غير مضمون الاستمرار، فإن استمر فغير مضمون الاستقرار، لأنه يعتمد دائمًا على القوّة المادية وحدها، والقوّة المادية ليست سلاح كل وقت.

سبيل المتسلطين لدوام السلطة أحد أمرين: إما الإحسان الذي يملك النفوس، والعدل الذي يحفظ الحقوق، والتساهل الذي يستهوي الأفئدة، والرحمة التي تأسر العواطف، وإما المحق لمقومات المغلوب الروحية والمادية مغافصة، أو تدريجًا، وتحطيم عناصر المقاومة فيه جهرة أو اغتيالًا، فأيّ السبيلين سلكت فرنسا في الجزائر؟

إنها آثرت الأمر الأخير من أول يوم، ووضعت له الأصول، ورتبت الوسائل، وآثرت من أنواعه التدريج المغطى بالكيد والاحتيال، وبدأت من المقوّمات بالدين، لأنها تعرف أثره في النفوس والإرادات، وتقدر ما فيه من قوّة التحصن من الانحلال، وقوّة المقاومة للمعاني الطارئة، فوضعته نصب عينيها، ومدت يدها إليه بالتنقص، فالتهمت أوقافه المحبوسة على مصالحه، لتجرده من القوة المادية التي هي قوامه، وتلصق برجاله الحاجة إليها فتخضعهم لما تريده منهم، فتصيرهم أدوات تأتمر بأمرها لا بأمر الدين، وتخضع لسلطانها لا لسلطان الدين، وما زالت بهم تروضهم على المهانة، وتسوسهم بالرغبة والرهبة، حتى نسوا الله ونسوا أنفسهم، ونسوا الفوارق بين رجل الدين الذي يدين بطاعة الله، وبين موظف الحكومة


* نشرت في العدد ١٥٦ من جريدة «البصائر»، ٢١ ماي سنة ١٩٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>