للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكمة الصوم في الإسلام *

يسمّي الناس هذا الشهر العظيم بشهر الصوم، أو شهر الإمساك فيقتصرون على الظاهر من أمره، فيبتدئ التقصير منهم في جَنْبِه من تسميته بأهون خصائصه ووصفه بأيسر صفاته، ووزنه بأخفّ الموازين، وشيوع هذه المعاني السطحية بين الناس يُفضي بالنفوس إلى تأثّرات باطنية، تبعدُها عن الحقائق العليا وتنزل بها إلى المراتب الدنيا، وقد توجّهها إلى جهات معاكسة للوجهة المؤدية إلى الله، ومن نتائج ذلك أن الناس أصبحوا يتعاملون مع الله على نحو من معاملة بعضهم بعضًا، فالنفوس الراهبة تخاف الله خوفًا تفضله على قياس الخوف من الملوك والأقوياء، مع أن الخوف من المخلوق يقتضي البعد عنه، والحذر منه والبغضَ له، أما الخوف من الله فإنه يقرب إليه، ولا يبعد عنه، ويثمر الحبّ والرضى والسكينة والاطمئنان، فأنّى يقاس أحدهما على الآخر! ولكنه الضلال في فهم العبادة جر إلى الضلال في فهم آثارها ومعانيها، ثم إلى الحرمان من آثارها ومعانيها؛ والنفوس الراغبة تطمع في الله طمعًا تقيسه بمقياس الطمع في المخلوق، فتلحف في السؤال ثم تضجر، وتعبده تملّقَا لا تعلّقًا، وكأنها تعطيه لتأخذ منه، وكأن العبادة عملية تجاريّة بين طرفين، مبنى أمرها على المصالح والمعاوضات، ومن غريب أمر هذه النفوس أنها تستأنس لهذا المعنى بعبارات القرآن مثل قوله تعالى: {هَئ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} الآية، وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} الآية، وقوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ ائمُؤْمِنِينَ} الآية، ولم تدرِ أن هذه أمثال ضربها الذي لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها، بالمُحَسّات المدركة لجميع الناس، ليستدرجهم منها إلى المعقولات العليا التي لا يعقلها إلا العالمون.

ما مسخ العبادات عندنا وصيّرها عادمة التأثير، إلا تفسيرُها بمعاني الدنيا، وتفصيلُها على مقاييسها، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق، والرجاء في الله على وزن الرجاء في


* نشرت في العدد ٢٣٢ من جريدة «البصائر»، ٥ جوان ١٩٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>