للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حركة الإسلام في أوروبا *

الإسلام روح تجري، ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين العقول وبين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها من مجاليها الأولى. لذلك نراه في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هاد، ويغزو مجاهل إفريقيا في الوسط والجنوب، ومنتبذات آسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوروبا مع الفتوحات العثمانية، كما دخل غربها في القديم مع الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية. وهو في كل ذلك يقتحم الأذهان، من غير استئذان. وليست تلك الفتوحات الحربية هي التي غرسته أو مكّنت له، لأن الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراهًا على الدين. وإنما مكّنت للإسلام طبيعته ويسره ولطف مدخله على النفوس وملاءمته للفطر والأذواق والعقول. ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال، لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوّة والعزّة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله، ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرّقوه شيعًا ومذاهب، فضعف تأثّرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نرى ونسمع.

لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغيّر ما به فيرجع إلى حقائق القرآن يستلهمها الرشد، ويستمد منها تشديد العزيمة، وتسديد الرأي وإصابة الصواب ومتانة الأخلاق، فيأخذ دينه بقوة، تهديه إلى أن يأخذ دنياه بقوة، ويقوده كل ذلك إلى أخذ السعادة بأسبابها.


* "البصائر"، العدد ١٤٧، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، ١٩ مارس ١٩٥١م.

<<  <  ج: ص:  >  >>