للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نهضة الجزائر بجميع فروعها، وكنت أقوم عليه بكثير من الأعمال إلى أن توفاه الله في السادس عشر أبريل سنة ١٩٤٠ وأنا في الاعتقال، فانتخبني إخواني رئيسًا للجمعية، وما زلت متشرفًا بهذه الرئاسة إلى الآن، وكان من أعمالي بعد خروجي من الاعتقال ثلاث سنوات أن أسّست في سنة وبعض السنة نحو سبعين مدرسة عربية حرّة متفرقة في جهات القطر بمال الأمّة، وقد وصل عدد المدارس الابتدائية الحرّة التي أسستها الجمعية بسعيي وإشرافي وبمال الأمة الخالص نحو مائة وخمسين مدرسة منها الضخم الفخم ومنها دون ذلك، وتحتوي هذه المدارس على نحو خمسين ألف تلميذ، وعلى نحو أربعمائة معلم، يتوّجها معهد ثانوي فخم يأوي نحو ألف تلميذ، وهو بجميع مرافقه ملك للأمّة.

موقف الاستعمار منّي:

يقبح بالمجاهد أن يذكر للناس ما أصابه في سبيل الله من بلاء، ولكنني مطلوب بهذا كجزء من تاريخ حياتي، فلأذكر- استحياءً- لقراء "المصوّ" بعض ذلك.

لا أذكر الملاحقات الجزئية والمضايقات فتلك طبيعة الاستعمار مع كل عامل على غير هواه، وإنما أذكر الكليات الكبرى، فقد أصدرت الحكومة الفرنسية أمرًا باعتقالي في أوائل الحرب العالمية الثانية بدعوى أن وجودي خطر على الأمن العام، وتم نفيي عسكرّيًا يوم ١٠ أفريل سنة ١٩٤٠ إلى قرية نائية في الجنوب الوهراني، ودام ذلك النفي ثلاث سنوات إلّا قليلًا، ولما أطلق سراحي وُضِعت تحت المراقبة الإدارية سنوات إلى أن انتهت الحرب، وفي يوم انتهاء الحرب دبّر المعمرون مذابح ٨ ماي ١٩٤٥، وفي ليلة ٢٧ منه كبست داري بقوّة عسكرية، ففتشوا منزلي وساقوني إلى السجن العسكري بالعاصمة، في غسق الليل وبصورة مزعجة محاطًا بقوات أخرى من داري إلى السجن وبينهما نحو ٨ كيلومترات، ولبثت في زنزانة ضيقة تحت الأرض لا آرى الضوء ولا استنشق هواء الحياة نحو سبعين يومًا، وكانوا لا يخرجونني منها إلّا ربع ساعة في ٢٤ ساعة مع حراسة مشدّدة، فلما انهارت صحتي نقلوني إلى حجرة منفردة على وجه الأرض وفيها بعض وسائل الحياة، ولما أكملت مائة يوم نقلوني ليلًا في طائرة خاصة مخفورًا إلى السجن العسكري بمدينة قسنطينة حيث كان مسرح الحوادث الدامية الفظيعة التي ارتكبتها عصابات المعمرين ضد الأهالي الآمنين، وكان هذا النقل تمهيدًا لمحاكمتي في محكمة عسكرية على الحوادث التي دبّرها الاستعمار وأهله، وكنت إذا اشتدّ علي المرض نقلوني إلى المستشفى العسكري تحت الحراسة الشديدة في حجرة منفردة، ولبثت في السجن العسكري ومستشفاه أحد عشر شهرًا، ولبث في المعتقلات عشرات الآلاف من رجال الجمعية وأنصارها وأتباع الحركات الوطنية مثل تلك المدة، ثم بدا للاستعمار فأطلق سبيل الجميع باسم العفو العام لا باسم الرجوع إلى الحق.

<<  <  ج: ص:  >  >>