للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *

- ٤ -

أتمثّله حنيفًا فيه بقايا جاهلية ... يدّخرها لميقاتها، ويوزّعها على أوقاتها، يردّ بها جهلَ الجاهلين، في زمن تفتّقت علومه عن جاهلية ثانية شرّ من الجاهلية الأولى - وتمخّضت عقولُ أبنائه بوحشية مقتبسة من الغرائز الدنيا للوحش اقتباسًا علميًّا ألبَس الإنسان غير لبوسه، ونقله من قيادة الحيوان إلى الانقياد للحيوانيّة، وأسفرت مدنيَّتُه عن جفاف في العقول، وانتكاس في الأذواق، وقوانينُه عن نصر للرذيلة وانتهاك للحُرُمات، وانتهت الحال ببنيه إلى وثنية جديدة في المال وعبادة غالبية للمال، واستعباد لئيم بالمال.

أتمثّله معتدلَ المزاج الخُلُقي بين الميوعة والجمود، وبين النسك والفتك تتّسع نفسه للعقيق، وعمر وابن أبي عتيق، فيصبو، ولا يكبُو، كما تتّسع للحرم وناسكيه فيصفو ولا يهفو، وتهزُّه مفاخرات الفرزدق في المربد، كما تهزّه مواعظ الحسن في المعبد.

أتمثّله كالدينار يروق منظرًا، وكالسيف يروع مخبرًا، وكالرمح أمدحُ ما يوصف به أن يقال ذابل، ولكن ذاك ذبول الاهتزاز وهذا ذبول الاعتزاز، وكالماء يمرؤ فيكون هناءً يُروي، ويزعق فيكون عناء يُردي، وكالرّاية بين الجيشين تتساقط حولها المُهَج وهي قائمة.

أتمثّله عفّ السرائر، عفّ الظواهر، لو عرضت له الرذيلة في الماء ما شربه، وآثر الموت ظمأ على أن يرد أكدارها، ولو عرضت له في الهواء ما استنشقه، وآثر الموت اختناقًا على أن يتنسَّم أقذارَها.

أتمثّله جديدًا على الدنيا، يرى من شرطها عليه أن يزيد فيها شيئًا جديدًا، مستفادًا فيها، يرى من الوفاء لها أن يكون ذلك الجديد مفيدًا.


* نشرت في العدد ١١ من جريدة «البصائر» ٢٠ أكتوبر سنة ١٩٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>