للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رواية الثّلاثة*

هَذِهِ -أَكْرَمَكَ اللَّهُ- رِوَايَةُ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ أُرْجُوزَةٌ أَكْثَرُهَا ((لُزُومُ مَا لَا يَلْزَمُ)) تُمَثِّلُ حَالَةَ ثَلآثَةٍ مِنَ الْأَسَاتِذَةِ، لَا يُدْفَعُونَ عَنْ فَضْلٍ وَلآ أَدَبٍ وَلآ ذَكَاءٍ وَمَا فِيهِمْ إِلَّا بَعِيدُ الْأَثَرِ فِي الْحَرَكَةِ الْإِصْلآحِيَّةِ، وَاسِعُ الخُطَى فِي مَيْدَانِ تَعْلِيمِ النَّاشِئَةِ وَتَرْبِيَّتِهَا.

وَكَانَ لَهُمْ شَيْخٌ يُقَارِضُونَهُ بِرًّا بِبِرٍّ، وَتَكْرِمَةً بِتَكْرِمَةٍ، وَكانَ لَهُمْ كَالْوَالِدِ يَأْبُوهُمْ وَيَحْبُوهُمْ (١)، وَكَانَتْ لَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةٌ خَاصَّةٌ، يُعَامِلُهُمْ بِحَسَبِهَا حَنَانًا وَلُطْفًا وَتَثْقِيفًا، وَكَانُوا يَعُدُّونَ أَيَّامَ اجْتِمَاعِهِمْ بِهِ- وَهِيَ قَلِيلَةٌ - غُرَرَ أَعْمَارِهِمْ يَتَسَبَّبُونَ لَهَا الْأَسْبَابَ، لِمَا يُفِيضُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَرائِفِ الْأَدَبِ، وَلَطَائِفِ الْحِكْمَةِ وَيُطَايِبُهُمْ بِهِ مِنْ بَارِعِ الُّكَتِ، وَمُلَحِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَفَاكِيهِ، وَغَرَائِبِ اللُّغَةِ وَالْأَخْبَارِ، فَكَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ لَا يَخْتَلِفونَ فِي تَرْجِيحِ وَزْنِهِ فِي الْمَوَازِينِ وَالْمُغَالَاةِ بِقِيمَتِهِ إِلَى أَبْعَدِ الْغَايَاتِ.

ثُمَّ طَرَقَ الدَّهْرُ بِحَادِثٍ حَالَ بَيْنَهمْ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا رَسائِلَ تَنْفُضُ عَلَيْها القاوبُ مَا تُكِنُّ، وَتُودِعُهَا النُّفُوسُ والْعَوَاطِفُ مَا تُجِنُّ (٢)، فَكَانَ الظَّنُّ بِالثَّلَاثَةِ، أَنَّهُمْ يُجَلُّونَ فِي هَذَا الْمِضْمَارِ، وَيَسْبِقُونَ جَمِيعَ النَّاسِ فِيهِ.

وَلَكِنَّهُمْ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ نَسُوهُ، وَكَأَنَّهُمْ التُّرَابِ دَسُّوهُ، وَقَطَعُوا حَبْلَ الاِتِّصَالِ الْكِتَابِي بِهِ الْبتَّةَ، فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ الشَّيْخِ، أَوْ أَلْقَى هُوَ عَلَى لِسَانِ الشَّيْطَانِ، هَذِهِ الْأُرْجُوزَةَ الطَّوِيلَةَ، وَنَحَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ فُصُولٍ وَمَعَانٍ فِي صُوَرِ مَجَالِسَ، يَتَجاذَبُونَ


* آفلو، ١٩٤١م.
١) يأْبُوهُم: يُعاملهم معاملةَ الأبِ لأبنائه. يَحْبُوهم: يُعطيهم.
٢) تُكِنُّ: تستر. تُجِنُّ: تُخفى.

<<  <  ج: ص:  >  >>