للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بحصن كفاية، ويستدفعون العظائم منك بعظيم، وأيم الله لقد تلفتت بعدك الأعناق واشرأبت، وماجت الجموع واتلأبت، تبحث عن إمام لصفوف الأمّة، يملأ الفراغ ويسد الثلمة، فما عادت إلا بالخيبة، وصفر العيبة.

يا ساكنَ الضريح، مت فمات اللسان القوّال، والعزم الصوّال، والفكر الجوّال، ومات الشخص الذي كان يصطرع حوله النقد، ويتطاير عليه شرر الحقد، ولكن لم يمت الإسم الذي كانت تقعقع به البرد، وتتحلّى به القوافي الشرُد، ولا الذكر الذي كانت تطنطن به الأنباء، وتتجاوب به الأصداء، ولا الجلال الذي كانت تعنو له الرقاب، وتنخفض لمجلاه العقاب، ولا الدوي الذي كان يملأ سمعَ الزمان، ولا يبيت منه إلا الحق في أمان.

مات الرسم، وبقي الإسم، واتفق الودود والكنود على الفضل والعلم.

وعزاء فيك لأمّة أردت رشادَها، وأصلحت فسادَها، ونفقت كسادَها، وقوّمت منآدها، وملكتَ بالاستحقاق قيادَها، وأحسنتَ تهيئتها للخير وإعدادَها، وحملتها على المنهج الواضح، والعلمَ اللائح، حتى أبلغتها سدادَها، وبنيت عقائدها في الدين والحياة على صخرة الحق، ومثلك مَن بنى العقائد وشادها، أعليت اسمها بالعلم والتعليم، وصيّرت ذكرها محل تكريم وتعظيم، وأشربتها معاني الخير والرحمة والمحبة والصدق والإحسان والفضيلة فكنت لها نعم الراحم وكنت بها البر الرحيم.

ولقد حييتَ فما كانت لفضلك جاحدة، ومتّ فما خَيَّبتْ من آمالك إلا واحدة (٢).

وهنيئًا لك ذخرك عند الله مما قدّمت يداك من باقيات صالحات، وعزاء لك فيمن كنت تستكفيهم، وتضعُ ثقتك الغاليةَ فيهم، من إخوانك العلماء العاملين، الصالحين المصلحين. فهم- كعهدك بهم- رُعاة لعهد الله في دينه، وفي كتابه، وفي سنّة نبيّه، دعاةٌ إلى الحق بين عباده، يلقَوْن في سبيله القذى كحلا، والأذى من العسل أحلى.

وسلام عليك في الأوّلين، وسلام عليك في الآخرين، وسلام عليك في العلماء العاملين، وسلام عليك في الحكماء الربّانيين، وسلام عليك إلى يوم الدين.

آفلو (٣)، ٢٢ ربيع الأول ١٣٦٠هـ/ ٩ أفريل ١٩٤١.


٢) هي القيام بثورة جارفة تكتسح الاستعمار الفرنسي، وتنتزع بها منه حريتها واستقلالها، فهذه هي الأمنية التي كنا نتناجى بها ونعمل لتصحيح أصولها، وقد حقّقت الأمّة الجزائرية الماجدة هذه الأمنية بعد نحو أربع عشرة سنة على أكمل وجه.
٣) آفلو: قرية نائية في جبل العمور من الجنوب الوهراني، وهذه القرية هي التي اختارتها السلطة العسكرية الفرنسية منفى لكاتب هذه الكلمات في أول الحرب العالمية الثانية قضى فيها ثلاث سنوات.

<<  <  ج: ص:  >  >>