للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهنا نقطة يكثر عنها السؤال، وهي: كيف لم يقم بعد الأمير عبد القادر قائد آخر من رجال جيشه يقود المقاومة سنة أو سنوات، مع أنه كان له جيش مدرّب يقوده رجال حربيون من أبناء الجزائر، بل ان الأمير كونّ حكومة أرقى من حكومة الترك التي لم يبقَ لها أثر بعد الاحتلال الفرنسي، وضرب السكة باسمها ونظّم القضاء والإدارة والحرب وجميع مقوّمات الحكومة.

والجواب ما قدمنا الإشارة إليه، من اختلاف الكلمة عليه من مشائخ الزوايا ورؤساء القبائل المخذولين الطامعين في الإمارة المنافسين للأمير فيها، وقد تفاقم هذا الشرّ واستحكم، والقطر واسع طويل عريض، والحكم التركي هيّأ النفوس للانتقاض الأرعن على كل حكومة. وأعتقد أن الأمير عبد القادر لو اقتصر على قيادة الثورة وساسها سياسة حربية باسم الجهاد في عدو مجمع على عداوته ولم يكوّن حكومة مدنية منظمة لاستقام له بعض الأمر، ولكنه بتكوينه لحكومة لها كل خصائص الحكومات أثار النزعات الكامنة في النفوس المريضة.

[حرب السبعين وثورة المقراني]

في سنة ١٨٧٠ أي بعد احتلال فرنسا للجزائر بأربعين سنة قامت الحرب بينها وبين جيرانها الجرمانيين أو البروس كما كانوا يسمّونهم، وكان المسيطر على جرمانيا داهيتها ومكوّن وحدتها "بسمرك"، فاغتنم الحاج أحمد المقراني أحد الرؤساء بمقاطعة قسنطينة فرصة اشتباك فرنسا مع الألمان في تلك الحرب، وأعلن الثورة عليها في الجزائر، وكان يعتقد هو ومؤازروه على تلك الثورة أن فرنسا لا تقوى على القيام بحربين، وأن انشغالها بحرب في أوربا فرصة لا تتكرّر. فهي أصلح الفرص للثورة والانتقاض على الحكم الفرنسي، فثار وكادت ثورته تعمّ المقاطعة القسنطينية، ولو تكرّرت انتصاراتها الأولى لعمّت الجزائر كلها، وأعادت المقاومة أقوى مما كانت، وقسنطينة أوسع المقاطعات الثلاث وأكثرها سكانًا، وأقواها عصبية قبلية ودينية، وكان إعلان هذه الثورة سنة ١٨٧١.

وشاء الله أن تسقط فرنسا أمام الجيوش الجرمانية، وتهزم شرّ هزيمة، وتفرض عليها تلك الضريبة الثقيلة فتعطيها وهي صاغرة، ثم تجمع فلول جيشها وتجهّزها لتحطيم ثورة المقراني، فتمّ لها ذلك.

من يوم فشل ثورة المقراني تحطمت المقاومة الجماعية بالجزائر، وكان لذلك الفشل أثر بليغ في نفوس الأمّة كلها، من الملل واليأس وسوء الظن بالزعماء، وتبارى الطامعون وأصحاب الدخائل السيّئة في الزلفى إلى فرنسا واكتساب رضاها وجرّ المغانم الزائفة إلى ذويهم والظهور على خصومهم، يريدون بذلك كسب المال والجاه وخلق زعامة لأنفسهم ما

<<  <  ج: ص:  >  >>