للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[- ١ -]

الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور علم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره، فهو إمام متبحّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال لها، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقرأ وأفاد، وتخرّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي، وتفرّد بالتوسّع والتجديد لفروع من العلم ضيّقها المنهاج الزيتوني، وأبلاها الركود الذهني، وأنزلتها الاعتبارات التقليدية دون منزلتها بمراحل: فأفاض عليها هذا الإمام من روحه وأسلوبه حياة وجدّة، وأشاع فيها مائية ورونقًا، حتى استرجعت بعض قيمتها في النفوس، ومنزلتها في الاعتبار.

وبعيد جدًّا أن يبلغ الإصلاح في الكلية الزيتونية مبلغه قبل أن تقوم الدراسات العليا فيه على ساق، وقبل أن تنفق لها في عرصاته سوق، وقبل أن تشمل تلك الدراسات التفسير والحديث والأخلاق والأدب والتاريخ.

هذه لمحات دالة- في الجملة- على منزلته العلمية، وخلاصتها أنه إمام في العلميات لا ينازع في إمامته أحد.

وأما العمليات فلا نعدّ منها التدريس في جامع الزيتونة، وإنما نعدّ منها إصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وقد اجتمعت في الأستاذ وسائله، وتكاملت أدواته، من عقل راجح لا يخيس وزنه، وبصيرة نافذة إلى ما وراء المظاهر الغرّارة، وفكر غوّاص على حقائق الأشياء، وذكاء تشفّ له الحُجب، واطلاع على تاريخنا العلمي في جميع أطواره، واستعداد قوي متمكّن للتجديد والإصلاح، ومن شأن هذه المواهب المتجمعة في أمثال الأستاذ أنها تكمن حتى تُظهرها الحاجة والضرورة؛ والحاجة إذا ألحّت كشفت عن رجل الساعة، وأخرجت القائم المنتظر، وقد وُجدت الحاجة إلى الإصلاح في كليتنا، فوُجد الرجل المدّخر، فكان الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور؛ وإن تدبير الأحوال الاجتماعية لأقوى وأبقى من تدبير الجماعات، وإن تدبير الجماعات لأثر من روح الاجتماع، وإن غفل الناس عن ذلك.

تقلّد الأستاذ مشيخة الجامع للمرّة الأولى فدلّت المصائر على أن التدبير الاجتماعي لم يكمُل، وكان من الظواهر المحسوسة أنها وظيفة جديدة لم يطمئن موطنها، ولم يدمّث موطئها، ولم تهشّ لها النفوس المبتلاة بالتقليد، والمريضة بالمنافسة، خصوصًا وهي- في حقيقتها- نزع للسلطة من جماعة وحصرها في واحد؛ والخروج عن المألوفات العادية يراه المجدّدون وضعًا للإصر، وانطلاقًا من الأسر، ويراه الجامدون فسادًا في الأرض وشرطًا من أشراط الساعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>