للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قُلّد الأستاذ مشيخة الجامع للمرّة الثانية، وكان الأمر قد استتبّ، والنفوس النافرة من التجديد قد اطمأنّت، والضرورة الداعية إلى الإصلاح قد رجحت؛ ومعنى ذلك كله أن التدبير الاجتماعي قد كمل، فخبّ الجواد في مضماره، وشعّ نور ذلك الاستعداد من ناره، وكان ما سرّ نفوس المصلحين من إصلاح وإن لم يبلغ مداه بعد.

لم يرَ جامع الزيتونة في عهوده الأخيرة عهدًا أزهر من هذا العهد، ولم يرَ في الرجال المسيرين له رجلًا أقدر على الإصلاح، وأمدّ باعًا من شيخه الحالي، وإذا كان الإصلاح يسير ببطء فما الذنب ذنبه، وإنما الذنب لطبيعة الزمان والمكان، وضعف المقتضيات، وقوّة الموانع، وحسبه أنه حرّك الخامد، وزعزع الجامد، وأجال اليد المصلحة في الإدارة وفي كتب الدراسة وفي أشياء أخر؛ وتلك هي مبادئ الإصلاح التي ينبني عليها أساسه، وحسبه أيضًا أنه نبّه الأذهان إلى أنّ إصلاحات خير الدين كعهد الأمان، كلاهما لا يصلح لهذا الزمان. وشتّان ما زمنٌ كله ممهّد للاحتلال، وزمن كل ما فيه ينادي بالاستقلال.

والحق أن في الجهاز التعليمي بجامع الزيتونة خللًا يحتاج إلى الإصلاح، وعللًا يجب أن تُزاح، ونقائص يجب أن تعالج، وتوافه من النظم يجب أن تُلغى؛ وكلها بقايا من إصلاحات خير الدين، لم تعد تصلح لخير العلم ولا لخير الدين.

فإذا اطمأن بعض أصدقائنا وإخواننا من علماء الزيتونة إلى بقاء ما كان على ما كان، فليعلموا أن وراءَنا من الزمن سائقًا عنيفًا حُطَمَة، يستحثّ البِطاء، ولا يغضّ من أعنّة العجال، وأنّ بين أيدينا ودائع من شباب متطلعّ إلى الكمال، توّاق إلى السبق، حريص على دقائق عمره أن تُنفق إلا فيما يَنْفُق. وهو يريد أن يكون كزمنه وأبناء زمنه، وزمنه ثلاثة: جدّ واتقان ونظام. وأبناءُ زمنه أحالهم العلم عقبان جوّ، وغيلان دوّ. وفرضت عليهم الحياة أن يأخذوا الكثير من العلم، في القليل من الوقت، وأرتهم مصداق ذلك حتى لا يرتاب مرتاب.

وليعلموا أن خصوم الإسلام في ازدياد، وأن سير الإلحاد في اطّراد، وأن العلوم الغربية زاحمت العلوم الإسلامية على نفوس شبابنا فافتتنوا، وأن ضرائر العربية من اللغات الأوروبية يتبرّجن تبرّج الجاهلية الثانية، وقد زاحمنها على ألسنة شبابنا فافتتنوا، وأن التعليم في كلياتنا المشهورة بوضعه الحالي لا يكفُل لنا سدّ أبواب هذه الفتن.

...

ولا أكذب الله، ولا أحاجي عباده، فقد أخرجت الزيتونة طرازًا من الرجال لو لم تفتنهم الوظائف المحدودة لأتوا في الإصلاح الدينى والدنيوي بالعجب، وما زالت هذه الوظائف المقيّدة قيدًا للنبوغ، بل مدفنًا للعبقرية، تنزل المواهب منها بدار مضيعة؛ وكم من عبقرية

<<  <  ج: ص:  >  >>