للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأستاذ الفضيل الورتلاني *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أيها الإخوان:

ما فكرتُ في هذا الموقف، ولا دبرتُ طريق الخلاص من مفاجآته إلّا بعد أن دخلت القاعة وتراءت وجوه الإخوان وسبقني بعضهم بالحديث، فوجدت نفسي بين عاملين قويين متعاكسين: عامل الأدب العرفي الذي يعلو حتّى يصل إلى الغلو والاغراق، وينزل حتّى ينتهي إلى الإسفاف والعامية، وعامل الحقيقة الواقعة الذي هو دائمًا ميزان اعتدال.

تواضع الناس على أن مدْحَ المرء لنفسه ذمّ، وتندر العرب في ذلك بالكلمة الساخرة: مادِحُ نفسه يُقرئك السلام، وتواضعوا على أن إطراء المرء لولده ذمّ، فإن لم يكن ذمًّا فهجنة، وإن اعتذر عن ذلك بعض الناس الخارجين عن القياس بأن هذا من مقتضيات الفطرة، فهو تنفس بشيء من معاني العواطف التي تنطوي عليها كلّ نفْس، والفطريات الوجدانية لا تخضع لهذه القوانين التي يسنها المجتمع، ومن كلمات العرب السائرة في هذا الباب: المرء مفتون بابنه، وزاد البحتري: وبشعره، وهو صادق: فإن فتنة الشاعر بشعره أعظم من افتتان الوالد بولده.

وأنا أرى أنه ما أكّد هذا القانون العرفي في نفوس الناس إلا غلوّهم في الإطراء، ومبالغتهم في المدح والثناء، حتّى لا يكون المدح عندهم مدحًا إلا هكذا، ولا يكون أدب المواجهة أدبًا إلّا إذا كان من هذه الآداب الزائفة المنافقة التي أصبحت مادّة لحياة الناس لا يتعارفون إلّا بها ولا يتعايشون إلّا عليها ولا يديرون ألسنتهم إلّا بها، من تحية الصباح إلى أن يخيط النوم أجفانهم، وأصبحت عمارة المجالس وبضاعة الأندية وقاعدة السلوك، يعدّون الخارج عنها خارجًا عنهم، ولو أنهم سلكوا القصد والتزموا الحق ووزنوا كلامهم بميزان


* كلمة أُلقيت في الحفل الذي أُقيم في فندق "سميراميس" بالقاهرة تكريمًا للأستاذ الفضيل الورتلاني، في شهر نوفمبر ١٩٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>