للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *

- ١ -

... كيف لا تنسى العدل أمة لبثتْ في ظلمات الظلم أحقابًا، وعقبت في ظلّ يحمومه أعقابًا؟ أم كيف تذكره بعد أن محت آيته آية السيف، فلم تنعم منه بإلمامة الطيف؟ وكيف يجد العدل مجالًا بين حاكم لا يسأل عمّا يفعل، وبين محكوم يُسأل عما لم يفعل؟ وكيف يجد العدل سبيلًا إلى نفوس زَرَع فيها الاستعمار- أول ما زرع- بذرة احتقار المسلم الجزائري، ثم ربّاها- أول ما ربّى- على الاستعلاء على المسلم الجزائري، ثم علّمها- أول ما علم- هضيمة المسلم الجزائري، وتجريده من أسباب القوة والحياة بكل وسيلة، وترويضه على الذل حتى يطمئن إليه، ويعتقد أنه كذلك خلق، أو لذلك خلق، فإذا سُلب مالُه عدّ سلامته من الضرب غنيمة، وإذا ضرب جسمه عدّ نجاته من ضرب العنق منحة كريمة، وإذا تأوّه للألم النفسي أو البدني عُدّ التأوّه منه جريمة؟

إن الاحتقار هو الأساس الخلقي الذي وضع عليه الاستعمار قواعدَه، وبنى عليه قوانينه، وإن ملكة الاحتقار هي الغاية في العالم الاستعماري، ينتهي إليها عالمه، وحاكمه، ومشرّعه، ومنفّذه، ولكنه بعد أن تراءى العيانان، عيان الفاعل وعيان القابل، لم يجد فينا قابلية الاحتقار، أباها لنا عرق في الإباء أصيل، وإرث من "محمد" أثيل، فانقلب ذلك الاحتقار على مرّ الزمن حقدًا يصهرُ الجوانح؛ وتحوّل بفعل الأحداث بُغضًا يأكل الأكباد، وكلّ ما يراه الرائي ويسمعه السامع من البلاء النازل علينا فذلك مصدره، وهذا مورده.

يا لله ... لما يحمل هذا الجسم المثخن بالجراح من حصانة ومناعة، ولما يكمن فيه من دفاع ومقاومة، هي آثار الخصائص الأصيلة في الجنس العربي، ولولاها لكان في


* نشرت في العدد ١١٩ من جريدة «البصائر»، ١٥ ماي سنة ١٩٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>