للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدين المظلوم *

كان الإسلام عزيز الجانب، منيع الحمى، يوم كان يدافع عن نفسه بروحانيته القوية، وحقائقه الواضحة، وعقائده الصافية، وأحكامه السمحة، وآدابه القويمة، وحكمه المتحكمة في العقول، وكان يُدافع عنه جند من أبنائه، عرضهم على ميزانه فرجحوا، واستعرضهم فنجحوا، وامتحن قلوبهم للتقوى فتكشفوا عن الطيب والطهر، وتلاقت العقائد الصريحة والقواعد الصحيحة على إنارة غسق الأرض بإشراق السماء، فظلّل الإسلام الكون بعدله وسماحته، وكان له في المشارق والمغارب مستقر ومستودع، وعلا بذلك على الأديان فجلّلها بالأمان، وأجارها من النسيان، وجاورها بالإحسان، فلما ضعف سلطانه على نفوس أبنائه ضعف سلطانهم على الأرض فاختلّ فتلاشى، ذلك يومَ أصبح قرآنه أغاني على الألسنة، لا أشفية للصدور، وأحاديثه أحاديث للتلهية والتغرير، لا معادن للأحكام والأخلاق، ويومَ قُفي على عقائده بالخرافات، ونسخت أحكامه بالعادات، وبدّلت آدابه بالتقاليد؛ فلما اطمأن المسلمون إلى هذا المهاد الذليل هانوا على الله وهانوا على أنفسهم فهانوا على الناس، فأصبحوا بهذه المنزلة لا يحمدون عليها ولا يُحسدون، وأصبح دينهم هدفًا لكل رام، ونهزة لكل عاد، وفريسة لكل مفترس.

دفع الإسلام أبناءه بتلك الروحانية العنيفة إلى ميادين الحياة، بعد أن عرّفهم بمعاني الحياة: دفع الأبطالَ إلى الفتح، وجعل الرفق رديفه، ودفعَ أولي الهمم إلى الملك، وجعل العدلَ حليفه، ودفعَ العلماء إلى التربية، وجعل الإصلاح غايتها، ودفع الأغنياء إلى بناء المآثر، وجعل عزةَ الأمّة نهايتها، فسدّ كل واحد ثغرة وأبقى فيها الآثار الخوالد: أبقى الأبطالُ تلك الفتوحات التي هي مفاتيح ملك الإسلام، وأبقى الخلفاء تلك السير التي هي


* نُشرت في العدد ١٢٢ من جريدة «البصائر»، ٥ جوان سنة ١٩٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>