للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في الموصل *

ها أنا ذا رجعت من جولة قصيرة في هذه القطعة العزيزة من وطني الإسلامي الأكبر، والفلذة الحية من كبد العراق، وهي الموصل وما جاورها عن الشمال والشرق، وأنا آسف أن لم يتّسع وقتي لزيارة ما جاورها عن الغرب، مع أنّ لي في تلعفر وسنجار جولات ذهنية تاريخية لا تقلّ عمّا لي من تلك الجولات الذهنية التاريخية في الموصل وإرْبيل، كعادتي في هذه الرحلة.

زرتُ هذه القطعة دارسًا في الدرجة الأولى لنفوس أبنائها، وممحصًا لأخلاقهم، ومستجليًا لما أبقت تصرفات الزمن وتقلبات الأحداث فيها من معاني الإسلام التي غرسها القرآن، وسقاها علماء القرآن الذين أنبتتهم هذه البقعة الخصيبة، فأفاءوا عليها الكثير الطيب زكاء وريعًا ونماء وبركة، وقد كانت هذه القطعة من شمال العراق منبت عظماء ومعدن علماء ومطلع فنّانين، ناهيكم بالموصل التي نبّهت في أهلها الحنين إلى الرحم المجفوة بينهم وبين شمال افريقيا ... تلك الرحم التي بدأت في باب البطولة بعبد الله بن الحبحاب، وختمت في باب الفن بزرياب.

وعبد الله بن الحبحاب الموصلي هو الذي اختط جامع الزيتونة بتونس سنة ١١٤ قبل أن يختط جوهر الصقلّي الجامع الأزهر في القاهرة المعزية بأكثر من قرنين، والزيتونة والأزهر هما منذ قرون منارتا العلوم الإسلامية في الشرق والغرب.

وزرياب نفحة فنية من نفحات الموصليين تصدقت به بغداد مكرهة على الأندلس، فبقي عطره وشذاه ساريين في الفنّ الموسيقي بالشمال الأفريقي إلى الآن.


* كلمة ألقيت بالموصل الحدباء، يوليو ١٩٥٢، ونشرت «البصائر» ملخصًا لها ووصفًا لاستقبال الموصل في عدد ٢٠٠، ٨ سبتمبر ١٩٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>