للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من العدول عن النثر إلى الشعر الذي هجرني هجرًا غير جميل فاستعطفته واستنجدته وإذا به يبضّ للخاطر الكليل بهذا القدر الضئيل. وهو على ضآلته ما كنت أظن أنني أظفر بمثله وقد بعثته إليكم، لتروا فيه رأيكم، فإن كان عندكم صالحًا كما أردتم فذلكم ما تقر به عيني وينشرح به صدري، وإن كان دونه أو بخلافه فحسبي أني بذلت فيه قصارى الجهد وحاولت أن أبلغ فيه غاية القصد" (١).

[- ٣ -]

أمام هذا، كان عليّ أن أتناول الحديث ولكن وجدتني أتهيب ذلك مرة أخرى من نحو آخر وأتساءل في ما بيني وبين نفسي هل في وسع الإنسان أن يكتب عن أقرب الناس إليه وأمتّهم رحمًا به وأشدهم تواصلًا معه؛ هل في وسع الإنسان أن يكتب عن والده؛ وما عساه أن يقول عنه وعن آثاره؛ ألا يجد أنه في موقف حرج يصعب أن يتفاداه؛

كانت حراجة الموقف لا تنبع من سعة الموضوع، ولكنها تكمن في أننا نخشى أن تغلب علينا ذاتيتنا وأن تستبد بنا محبّتنا وأن يحول التقدير الأبوي بيننا وبين موضوعية الحديث، أو على النقيض أن يكون الإسراف في التحرر من الذاتية ونشدان الموضوعية سبيلًا إلى تغييب بعض الحقائق أو السكوت عنها أو الاجتزاء بطرف منها دون طرف، إيثارًا للتواضع وبعدًا عن الإشادة في مواجهة هذا الموقف الذي يشبه الإبرة الممغنطة في اتجاه أحد قطبيها إلى الشمال واتجاه الآخر إلى الجنوب وعودتها إليهما كلما زحزحت عنهما. أوشكت أن أنتهي إلى أن أترك هذه الطبعة الجديدة من غير مقدمة نثرية، ووجدت في القصيدة الشعرية وفي الرسائل التي يعدها بعض طلبة الدراسات العليا ما يجلو شخصية الشيخ وسيرته في حياته وأسلوبه.

[- ٤ -]

إنه عسير عليّ أن أعطي هذه المجموعة مكانها من سير البيان العربي .. ذلك أن الذين كانوا يقرأونها في المشرق والمغرب كانوا يواجهون أسلوبًا هو أشد ما تكون الأساليب رصانة وأقوى ما تكون جزالة وأقدر ما تكون على التفنن في المعالجة .. كان له من المشارقة صفاء البيان ومن المغاربة منطقية العرض وكان من أسلوب القرآن الكريم- تنوعًا وأصالة- استمداده واستلها مه.

إن هذه المقالات لا تصور الشيخ في أبعاده كلها. ويحتاج الدارس الأدبي إلى أن يصطنع قدرًا كبيرًا من التخيل حتى يستطيع أن يستكمل تقديرها حق قدرها .. فقد كتبت في ظروف صعبة شديدة الصعوبة كان فيها للاستعمار عيون مبثوثة وسيوف مصلتة وقدرة على الشر تخطيطًا وتنفيذًا .. ولكن هذا لم يحجب نصاعة الأسلوب ولا وضوح القضايا ولا براعة العرض.


١) من رسالة خاصة قدم بها للقصيدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>