للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أشنع أنواع الاستعباد، فرسخت أصول الحرية في هذه الأمم، واستمرأوا طعمها، وجنوا ثمراتها، وتنوّعت مناحيها من حرية الرأي والمعتقد إلى حرية الاجتماع والقول، فأرادوا أن يخرجوا على العالم بشيء جديد، فتداعوا إلى مؤتمر، وأسفر المؤتمر عن قانون سمّوه "قانون إلغاء الرق" يحرّم ملك الرقيق والاتّجار به، وعرضوه على حكومات العالم فوافق عليه الكثير منها، ومنها الدولة العثمانية، وكانت دولة الخلافة الإسلامية إذ ذاك، ولكنها كانت من الضعف بحيث لا تستطيع أن تخالف لأوربا رأيًا وإن كان سخيفًا أو مرادًا به غير ظاهره، ولا تستطيع أن تمنع النخاسة في ممالكها الواسعة الممتدة الأطراف، ولما كان مما ورثه الأوربيون عن أسلافهم وعن الكنيسة عداوة الإسلام، وكان من أعمال الكنيسة تعهّد تلك الشجرة الخبيثة، شجرة الحقد على الإسلام وأهله، بالسقيا والتنمية، كان من ثمرة ذلك الحمل على الإسلام وإلصاق النقائص كلها به كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فقد اتّفقت حكومات أوربا وأمريكا على تحريم الاسترقاق وتضييق الخناق على المتّجرين بالرقيق، وبقيت بعض الحكومات الإسلامية متساهلة في ذلك- صدقت الحملة من الحكومات المسيحية وكتابها على الإسلام من هذه الثغرة وهي الاسترقاق- فعابوه بأنه دين استرقاق لا دين حرية، وفهموا أن الاسترقاق أصل من أصوله كالصلاة والحج وحكم من أحكامه لا يجوز للحاكم المسلم أن يلغيه ولا أن يهدمه، وقد تكشفت الحكومات الأوربية والكتاب الأوربيون في هذه القضية عن جهل فاضح بمقاصد الإسلام وسياسته في تنظيم الاجتماع الإنساني، وهذا هو ما نحاول توضيحه في هذه الكلمة.

[دين التحرير]

استشرف العالم الإنساني قبيل البعثة المحمدية إلى دين سماوي عام، يحرّر الإنسانية تحريرًا كاملًا في جميع جوانب الحياة، ويبتدئ بتحرير العقل الذي هو القوة الروحية المصرفة للإنسان، والمميزة بين الخير والشر، وكان ذلك الاستشراف بعد أن عجزت نبوّة الأنبياء وحكمة الحكماء عن تحريره، فجاء الله بالإسلام دينا سماويًا عامًا كاملًا ليحقق للإنسانية آمالها في التحرير العام، فكان الإسلام هو دين التحرير، وهو النبأ الذي كان أصحاب الأرواح الصافية يترقبونه، وهو الأمنية التي كانت تملأ نفوس المصطفين الأخيار من عباد الله ثم ماتوا قبل أن تتحقق.

نقول: إن الإسلام هو "دين التحرير العام"، فنرسل هذا الوصف إرسالًا بدون تحفّظ ولا استثناء، لأنه الحق الذي قامت شواهده وتواترت بيّناته، ومن شواهده وشهوده تلك الأجيال التي صحبت محمدًا وآمنت به واتّبعت النور الذي أنزل معه، ثم الذين صحبوهم، ثم الذين اتّبعوهم بإحسان، ونحمد الله على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها لم تنقطع عند جميع

<<  <  ج: ص:  >  >>