العقلاء من أجناس البشر، والعقلاء هم حجة الله على من سواهم، وما زال الخير يسمّى خيرًا، والشرّ يسمّى شرًا، والفضيلة فضيلة، والرذيلة رذيلة. فالسارق يسرق وهو يعتقد أنه متعد على مال الغير، والمتبع لخطوات الشيطان لا يقول رضي الله عن إبليس، وإنما يقول- لعنه الله- وإن هذه لمن أسرار فطرة الله التي فطر خلقه عليها يواقعون الشر ولا يسمّونه خيرًا، فيسجّلون بذلك الشهادة على أنفسهم، إلا المطبوع على قلوبهم، الفاقدين للشعور، كالذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، وكصرعى التقليد للحضارة الغربية الذين استرقتهم الشهوات فاستباحوا المحرمات باسم الحرية. وكالمسيرين للدول الغربية، أسكرتهم القوة فبغوا على الضعفاء وسلبوا أوطانهم، وسمّوا بغيهم استعمارًا.
إن من الظلم والحيف والغش والفساد في الأرض تسمية الأشياء بغير أسمائها، لأنه قطع للأسباب عن مسبباتها، وقد قيل في قوله تعالى:{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، إن منه قطع الدوال عن مَدلولاتِها، وان أعظم شرور هذه الحضارة الغربية أنها فتحت الباب لهذا النوع من المسخ وشجّعت عليه، فأفسدت الفطرة، والضمير الذي سمّاه محمد - صلى الله عليه وسلم - "وازع الله في نفس المؤمن".
والتحرير الذي جاء به الإسلام شامل لكل ما تقوم به الحياة وتصلح عليه المعاني والأشخاص، والدين الإسلامي لا يفهم التحرير بالمعنى الضيّق، وإنما يفهمه على أنه كل إطلاق من تقييد، أو تعديل لوضع منحرف، أو إنصاف لضعيف من قوي، أو نقل شيء من غير نصابه إلى نصابه. قالت أسماء بنت أبي بكر حينما بعث لها أبوها بجارية تقوم لها بعلف الفرس: فكأنما أعتقني.
حرّر الإسلام العقل وجميع القوى التابعة له في النفس البشرية، والعقل هو القوة المميزة للمتضادات والمتنافرات التي بني عليها هذا العالم، كالصلاح والفساد، والخير والشر، والنفع والضر، ولذلك جعل مناطًا للتكاليف الدينية والدنيوية، وقد يطرأ عليه ما يطرأ على الموازين المادية من الاختلال فيتعطل أو ينعكس إدراكه، والإسلام يعلو بتقدير العقل والفكر إلى أعلى درجة، ويقرّر أن إدراك الحقائق العليا في الدين والكون إنما هو حظ العقول الراجحة والأفكار المسددة، وأن العقول المريضة والأفكار العقيمة تنزل بصاحبها إلى الحيوانية بل إلى أحط من الحيوانية، ففي القرآن العظيم {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.
ولهذه المنزلة التي وضع الإسلام العقل فيها حماه من المؤثرات والأمراض والعوائق، وأحط دركة يرتكس فيها العقل هي الوثنية، فهي أكبر معطل له عن أداء وظيفته حين لا يسمو إلى الجولان في العوالم الروحية وحين تفتنه الماديات بظواهرها من طريق الجوارح الحسية.