للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعلن الإسلام من أول يوم حربًا شعواء على الوثنية بجميع أنواعها، وهي أشدّ ما كانت سلطانًا على النفوس، وتغلغلًا فيها، وإفسادًا لفطرة الخير وإطفاء لنورها، حتى اجتثّها ومحا آثارها من النفوس ومن الآفاق، وعمر مكانها بالتوحيد. أتدرون السر في تلك الحملات على الوثنية؟ هو تحرير العقل من نفوذها وسلطانها حتى يواجه أمانة الدين الجديد صحيحًا معافى، ويؤدي الوظيفة التي خلق لأدائها؛ وما هدم أصحاب محمد الأصنام بأيديهم إلا بعد أن هدم محمد الوثنية في نفوسهم، وبعد أن بنى عقولهم من جديد على صخرة التوحيد، ولولا ذلك لما أقدم خالد على هدم طاغية ثقيف.

وحزر الخلطاء بعضهم ببعض بما شرعه من أحكام عادلة تقوم بالقسط، وترفع الحيف والظلم، ووقف بكل واحد عند حدّه، وحفظ له حقوقه.

فحد الحدود بين المرأة والرجل وبين المحكوم والحاكم وبين الفقير والغني وبين العبيد والسادة وبين العمّال وأصحاب المال، وهذه الأنواع من التحرير تناولتها النصوص القطعية من القرآن والأحاديث، واكتنفتها في صلب النصوص مؤثرات من الترغيب والترهيب تزيدها قوة ورسوخًا في النفس، فأما تحرير المحكومين من الحاكمين فلا مطمع أن يأتي فيه على وجه الدهر ما جاء به الإسلام من شرائع العدل والإحسان والشورى والرفق والرحمة وعدم المحاباة حتى في النظرة والكلمة والمجلس.

وأول ما يسترعي النظر من ذلك سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقضيته في حياته وما أدبه به ربّه من مثل قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ}، ثم سيرة الخلفاء الراشدين في الحكم فإنها كانت مثالًا من أحكام النبوّة التي هي وحي يوحى، وإن الأمثلة التي ضربها عمر في إقامة العدل وقوة الاضطلاع، لأمثلة خالدة على الدهر، فاق بها من قبله، وأعجز من بعده، وما أروع قوله: "من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقوّمه"، وأروع منه قول مجيب من أفراد الرعية: "لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوّمناه بسيوفنا"، وأبلغ منهما في الروعة أن يحمد عمر ربّه على أن يكون في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من يقوّم عمر بسيفه.

والتشريع الإسلامي تشريع متّصل الحلقات من العقائد والعبادات إلى الآداب والمعاملات. وكلّه يرمي إلى غاية واحدة، وهي إنشاء أمة متّحدة المبادئ والغايات، متناسقة ما بينهما، لتحمل الأمانة كاملة صحيحة إلى الأجيال اللاحقة، وقد تمّ للإسلام ما أراد عدة قرون، وما زلنا- بحمد الله- نحمل بقايا من ذلك، ولولاها لكنّا في الغابرين.

وحرّر الإسلام الفقير من الغني، فجعل للفقراء حقًا معلومًا في أموال الأغنياء، ووجه التحرير هنا أن الفقير كان يسأل الغني فيعطيه أو يحرمه تبعًا لخلقه من تسهل أو كزازة، فإذا

<<  <  ج: ص:  >  >>