للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعطاه شيئًا أخذه على أنه مكرمة ممنونة، تجرح نفسه، وان أشبعت بطنه، ولكن الإسلام ألزم الغني بدفع الزكاة للفقير وسمّاها حقًا معلومًا، وتسمية هذا المال حقًا لله تشعر الغني بالرضا والتسليم والاطمئنان إلى إخلافه ومضاعفته، وترفع عن الفقير غضاضة الاستجداء ومهانة السؤال، وتطهّر نفسه مع ذلك من رذيلة الحقد على الغني، وهذا الحقد هو أساس الشيوعية ومن عجائب الإسلام في إدخال التربية النفسية في الأحكام، أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء من العمليات إلا بعد أن يمهّد للنفس ويعمرها بخوف الله وحده، ويقنعها بالآثار التي تترتب على المأمور به أو المنهى عنه، فإذا جاء دور العمل كانت النفس مطمئنة بالعلم وراضية بالعمل مهما شق، ولهذا كانت عقائد الإسلام وعباداته وأحكامه وآدابه كلها مترابطة وكلها متعاونة على تهذيب المسلم، ولهذا السر أيضًا صلح شأن المسلمين الأولين، لأنهم أقاموا الدين كله، عينيًا في العينيات، وكفائيًا في الكفائيات، وكانوا لا يتهاونون في الصغيرة، احتياطًا للكبيرة، ومن أوامر القرآن: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.

وحرّر الإسلام الحيوان الأعجم من الإنسان، وحرّم عليه أن يحمله ما لا يطيق من الأحمال والأعمال، وأن يجيعه أو يعطشه، فإذا فعل به شيئًا من ذلك بيع عليه جبرًا بحكم الحاكم، وأوصى في الرفق بالحيوان وصايا زاجرة، وفي حديث نبوي أن امرأة دخلت النار بسبب هرة أمسكتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل خشاش الأرض، وأن امرأة عاصية لله دخلت الجنة بسبب كلب وجدته يلهث عطشًا على حف بئر فأدلت خفها وسقته، وما من شيء تفعله جمعيات الرفق بالحيوان في هذا العصر إلا وقد سبق الإسلام إلى أكمل منه.

وحرّر الإسلام المرأة من ظلم الرجال وتحكّمهم، فقد كانت المرأة في العالم كله في منزلة بين الحيوانية والانسانية بل هي إلى الحيوانية أقرب، تتحكّم فيها أهواء الرجال وتتصرف فيها الاعتبارات العادية المجرّدة من العقل، فهي حينًا متاع يتخطّف، وهي تارة كرة تتلقف، تعتبر أداة للنسل أو مطية للشهوات، وربّما كانت حالتها عند العرب أحسن، ومنزلتها أرفع، يرون فيها عاملًا من عوامل ترقيق العواطف وإرهاف النفس، ودواء لكثافة الطبع وبلادة الحسن، ويجدون فيها معاني جليلة من السمو الإنساني، وأشعارهم- على كثرتها- عامرة بالاعتراف بسلطان المرأة على قلوبهم وبشرح المعاني العالية التي يجدونها فيها، ولا عبرة بما شاع عنهم من وأد البنات، فإنه لم يكن عامًا فاشيًا فيهم، وتعليله عند فاعليه يشعر أنه نتيجة حب طغى حتى انحرف، وأثر عقل أسرف في تقدير العواقب، لا نتيجة كراهية لنوع الأنثى، وعلى كل حال فالوأد خطأ كبير، وجريمة شنيعة، وشذوذ في أحكام الرجال خارج عن نطاق الانسانية، وحسبه تسفيه قوْلِه تعالى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.

وجاء الإسلام فنبّه على منزلتها وشرفها وكرم جنسها، وأعطاها كل ما يناسب قوّتها العقلية وتركيبها الجسمي وسوّى بينها وبين الرجل في التكاليف الدينية، وخاطبها بذلك

<<  <  ج: ص:  >  >>