سنحدّتكم عن الهيئات الثلاث حديثًا يعرّفكم بها، وبطبيعة كل واحدة منها، وبالفروق والجوامع بين مبادئها وأعمالها، ولا يتأتى لنا أن نصل في حديثنا إلى ما يصل إليه التاريخ المدقق الغائص على الدقيقة والجليلة، ذلك أن هذه الجماعات الثلاث حديثة العهد، لم تجاوز أطولهن عمرًا عقدين ونصفًا من السنين، ولم يدوّن الزمن إلا الصفحة الأولى من تاريخها بما فيه من نقص وكمال، ونظم واختلال، وإنما الممكن المتأتي لي أن أحدّثكم عنها حديث المعرّف بها، المصاحب لها من يوم نشأتها إلى الآن، المشارك فيها بالرأي والعمل، المتّصل الأسباب برجالها وأحداثها، فقد قدِّر لي أن أشهد ميلاد الجماعات الثلاث، وأن تكون لي يد في إنشاء أكبرها وهي جمعية العلماء التي أتشرّف برئاستها الآن، وأن ألابس الجماعتين الأخريين ملابسة الإرشاد والنصح والمشاركة في الرأي والعمل أحيانًا، بحكم وظيفتي الدينية والثقافية في المجتمع، ولا تطمعوا أن تسمعوا الكلام المبوّب، في الأسلوب المرتّب، وإنما املاءات يمليها الخاطر، وصبابة مما وعته الذاكرة التي أجهدها الحمل، ورماها السن بالنسيان والإضاعة، ومن سمت به همّته منكم إلى التوسّع في العلم بحال إخوانه في الجزائر، فعليه بمراجعة مجلدات «البصائر» خصوصًا فيما يتعلق بجمعية العلماء وحملاتها على الاستعمار ووقائعها معه.
____
[جمعية العلماء]
____
الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، والشهادة التي يؤدّيها لوجه الحق حتى رجال الاستعمار، هي أن أول صيحة ارتفعت بحريّة الجزائر كانت من لهاة عبد الحميد بن باديس ولسانه، وأن أول صخرة وضعت في أساس نهضة الجزائر بجميع فروعها من علمية وسياسية واجتماعية وأخلاقية إنما وضعتها يداه.
وعبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها ومدرّب جيوشها عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرّق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللمّاح، والفهم الغوّاص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي، والاطّلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر مع التمييز بين ضارّها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاتها غير