العربية، وكان مع التضلّع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها إمامًا في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتابها.
وهو من بيت عريق في المجد والملك والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقق بالمعزّ بن باديس- مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية- إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدّثناكم عن دولها وآثارها بالجزائر، والمعز بن باديس هو جذم الدولة التي كانت بالقيروان، ويزعم بعض النسّابين أنها يمنية وقعت إلى شمال أفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرق الغرب من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجة الهلالية في الآخرين.
والدولة الباديسية هي التي خلفت الفاطميين على مملكة القيروان، حينما انتقلوا منها إلى مصر، وجعلوا كرسيّهم القاهرة التي شيّدها لهم قائدهم جوهر الصقلي فاتح مصر وباني الأزهر، واسم القاهرة وسِيماها ونسبتها إلى المعز الفاطمي الذي هو أول خليفة تديّرها من خلفائهم، كل ذلك من وضع جوهر القائد.
والأسرة الباديسية نابت عن الفاطميين أولًا في إمارة القيروان ثم استقلّت بها دونهم يوم آنس أمراؤهم ضعف الفاطميين في الشرق.
ولهذه الأسرة بعد انقراض ممالكها وانقطاع سند الإمارة منها ذِكرٌ نابِه في العلم، فقد نبغ في كل قرن من قرون الهجرة منها علم من أعلام الفتيا والإمامة في العلوم الإسلامية، وتوارثت ذلك، منهم هذا الفرع الذي استوطن مدينة قسنطينة: إلى أن كان آخرهم الإمام عبد الحميد بن باديس الذي توفي في اليوم السادس عشر من شهر أبريل سنة ١٩٤٠ ميلادية.
هذا الرجل النابغة يشهد التاريخ أنه واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها المسلك العلمي الحكيم، وهو مسلك التربية والتعليم، وأعانه على ذلك استعداده الفكري وكمال أدواته، فتصدر للتعليم حوالي سنة ١٩١٤ ببلدة قسنطينة التي هي مستقرّ أسرته من المائة السابعة للهجرة، وعمره إذ ذاك دون الخامسة والعشرين، فجمع عليه عشرات من الشبّان المستعدّين فعلمهم وربّاهم وطبعهم على قالبه ونفخ فيهم من روحه وبيانه، تطوّعًا واحتسابًا لا يرجو إلا جزاء ربّه ولا يقصد غير نفع وطنه.
وكان- رحمه الله- يؤثر التربية على التعليم، ويحرص على غرس الفضائل في نفوس تلامذته قبل غرس القواعد الجافّة في أدمغتهم، ويدرّبهم على أن ينهجوا نهجه في العمل للعروبة والإسلام، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرج على يده وعلى طريقته جيل