للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الباب، بل نتنازل وندعوه لأن يأتينا بأمة من أمم الحضارة تستطيع أن تقف بجانب العرب في هذا الميدان.

((فصل))

ونعود إلى الحديث عن الضبّ، فأنا أعترف أني ما حققت معنى المثل العربي المشمهور "أعقد من ذنب الضبّ" إلا بعد دراستي لضبّكم، وأن هذا المثل لأشهر من "قفا نبك ... " وانه لممضوغ بكل لسان، ممجوج على سن كل قلم، تقرأه في كل صحيفة وفي كل كتاب، وما أكثر العقد- والتعقيدات- في زماننا التي يحسن ضرب هذا المثل لها، ولو أن الذين يضربون هذا المثل تقليدًا واتّباعًا رأوا الضبّ ورأوا ذنبه وتحسّسوا تلك العقد الشائكة في ذنبه، لكان تمثلهم أوقع في نفوسهم ولكانت نفوسهم أشدّ تأثّرًا به، وعلى مقدار التأثر يكون التأثير، ولعلموا مع ذلك إصابة العرب في مواقع التمثيل ومراميهم في مضارب الأمثال، وأن في المخلوقات أشياء كثيرة ذات عجر أو عقد أو أبن، ولكن العرب آثروا الضبّ في التمثيل لأنه حيوان صغير مسالم ليّن المجسّة كليل الظفر إلّا عن حفر الكدى ليتّقي لا ليتّقى، ومع هذه الصفات الرخوة فذنبه معقّد ذاك التعقيد العجيب، وهو شائك، وهو لحامله شكة وحامله منه شاكي السلاح، وقد حكى لي بعض من رآه يضرب به الأفعى حتى يقتلها.

وقد أكثرت العرب من ضرب الأمثال بهذه الزواحف والحشرات الحقيرة، فكان ذلك تنويهًا بشأنها وتنبيهًا للمتوسمين والباحثين في مخلوقات الله ليزداد المؤمن إيمانًا بالخالق ويزداد المتفقّه فقهًا في حقائقها، ويزداد الباحث توسّعًا في المعرفة، والمعرفة ميزة هذا الجنس.

وقد قالوا ضلّ دريص نفقه، وهو تصغير درص اسم لجرو الفار، وقالوا: "تخلصت قائبة من قوب" للفرخ من البيضة، وهذا باب واسع في أمثالهم يقبح بالمتأدبين من ناشئتنا أن لا يجعلوا له حظًا من حفظهم وبحثهم، وأنا فقد رأيت الضبّ سلوخًا ومطبوخًا- وإن لم آكل لحمه- عند البدو في نجد الغربية مما يلي المدينة المنورة، ورأيته عند دافة من أعراب الحجاز دفت على المدينة في عام ممحل فما أثارت رؤيته في نفسي إلا ذكرى أنه عرض على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع يده فقيل له: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: «لا أحرم ما أحلّ الله، ولكنه ليس بأرض قومي- وإن نفسي لتعافه-» وفي هذا الجواب روايات، وان خالد بن الوليد حين سمع هذا الجواب تناوله من بين يدي رسول الله فأكله، ويؤخذ من جوابه - صلى الله عليه وسلم -، أن الضبّ غير موجود بمكة في زمنه، ولم أوفق إلى سؤال أهل مكة عنه في زمننا هذا، ولو سألت لكان زيادة في العلم واليقين، لأن الحديث ظني، وان تعددت طرقه واشتهر بإخراج الصحاح له.

<<  <  ج: ص:  >  >>