رحلنا إلى باريز، أنا والأخ الأستاذ الشيخ العربي التبسي، في أواخر شهر أكتوير الأخير، وأقمنا بها خمسين يومًا، ثم رجعت وأقام الأستاذ التبسي لإتمام بقايا من الأعمال ومن العلاج.
نحن نعلم أن الأمّة متشوفة إلى الاطلاع على أسباب هذه الرحلة ونتائجها الإيجابية أو السلبية، وقد ألمّت الجرائد الفرنسية هنا وفي باريز ببعض أسبابها وتكلم بعضها في صلب القضية، وفيها المنصف المصيب وفيها المتعسف المخطئ، أما نحن فلم نشأ أن نكتب عن الرحلة، لا قبلها ولا في أثنائها، ولنا في ذلك رأي، ليس منه التكتم، فما في الحقيقة كتمان، وما تعوّدنا أن نتكتم أو أن نعمل في الخفاء، ولكننا كنا نرى أن الكلام عن الشيء في مبادئه هو من باب الأخبار، فربأنا بالوقت أن يشغل بالأخبار، فتركناها لأهلها يخوضون فيها، وتربصنا بالكلام إلى نهاية الرحلة.
ذهبنا إلى باريز لخدمة قضيتين، باريز هي مركزهما، وهي ميدان الأعمال لهما، الأولى قضيتنا المعروفة ذات الشعبتين، وهي فصل الحكومة الجزائرية عن الدين الإسلامي، وحرية التعليم العربي، وهي القضية التي قضينا عقدين من السنين في الحديث عنها، والخطابة فيها، والمطالبة بها وما زلنا- إلى أن يبلغ الحق فيها أمده- نتحدث عنها، ونخطب فيها، ونطالب بها، وما زالت حكومة الجزائر متصامة عن صوت الأمّة فيها، نخاطبها بالكلام الفصيح، والحق الصريح، فكأنما نخاطب صخرة صمّاء، ونجلو الحقائق الواضحة عليها، فكأنما نعرضها على مقلة عمياء، فلما عيينا بالأمر ذهبنا إلى باريز لعلمنا أن الأمر منها بدأ وإليها يعود، وأن نقل القضية من هناك إلى هنا إنما هو حيلة وتداه، كنقل قطع الشطرنج من بيت
* "البصائر"، العدد ١٣٦، السنة الرابعة من السلسلة الثانية، ٨ جانفي ١٩٥١م.