للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجنسي، فلو فرضنا وجود تينة واحدة في العالم في بقعة لا يوجد بها آدمي لكان من المترتب على هذا الفرض انقراض صنف التين بعد موت تلك الشجرة، ولكن تلك التينة قد أودعت فيها الحكمة ما يحفظ بقاءها النوعي بعد فنائها الشخصي، وذلك أن ألوان ثمرها تستهوي الطيور إلى أكلها ثم تزرع بذورها التي تخرج مع الفضلات في الصخور أو الأودية، فتنبت منها شجيرات صغيرة ثم تنمو وتثمر دواليك، وقل مثل ذلك في النخلة وغيرها. وكم رأينا في شقوق الصخور الشاهقة- حيث لا تصل يد إنسان- أشجارًا من التين عظمت حتى صارت دوحًا وما نبتت إلا من البذور الخارجة مع رجيع الطيور.

وعلى هذا فلا يبعد أن يكون قومنا العرب أدركوا ذروا من هذه الحكمة- وليس ذلك بعجيب منهم- فجعلوا دلالة الضب على نفسه تعبيرًا بلسان الحال عن هذه الحكمة، ولا شك أن الآكل الأول للضب ما أكله إلا بعد أن استهواه شيء فيه من سماته الظاهرة كالكشية، وكم لله من سر خفي!

((فصل))

وكما يستطيب العرب لحم الضبّ حتى صار لهم أثرًا وخبرًا، كانوا يستطيبون أكل بيضه ويسمّى في لغتهم "المكن".

يقول المتنبي في وصف قوم من الأعراب:

خُرَّابِ بَادِيَةٍ غَرْثَى بُطُونُهُمُ ... مَكْنُ الضِّبَابِ لَهُمْ زَادٌ بِلَا ثَمَنِ.

والمتنبي ممن يحسن التبدي والتعاريب، ويحسن وصف البدو مدحًا أو ذمًا، وهذا البيت من هذا الطراز.

وقال شاعر آخر، وأظنّه إسلامي يتعارب، ولست أتذكر اسمه الآن:

أكلت الضباب فما عفتها ... واني لأهوى لحوم الغنمْ

وركّبت زبدا على تمرة ... فنعم الطعام ونعم الأدم

وقد نلت ذاك كما نلتم ... فلم أرَ فيها كضبّ هرم

وما في البيوض كبيض الدَّجَا ... جِ وبَيْضُ الجراد شفاء القرم

ومكن الضباب طعام العُرَيْبِ ... ولا تشتهيه نفوس العجم

وكيف لا يستطيب لحم الضباب ومكن الضباب من يقول شاعرهم، وهو عروة بن الورد:

عشية رحنا سائرين وزادنا ... بقية لحم من جَزورٍ مُمَلَّحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>