للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حقيقتهما المبطلون، أو يعبث بهما المبتدعة، فكل واحد منهم حذر أن يُؤتَى الإسلام من قبله، فهو- لذلك- يقظ الضمير، متأجج الشعور، مضبوط الأنفاس، دقيق الوزن، مرهف الحس، متتبع لما يأتي الناس وما يذرون من قول وعمل، سريع الاستجابة للحق، إذا دعا داعيه، وإلى نجدته، إذا ريع سربه أو طرق بالسر حماه.

وكانوا يأخذون أنفسهم بالفزع لحرب الباطل لأول ما تنجم ناجمته، فلا يهدأ لهم خاطر حتى يوسعوه إبطالًا ومحوًا، ولا يسكتون عليه حتى يستشري شرّه، ويستفحل أمره فتستغلظ جذوره، ويتبوّأ من نفوس العامة مكانًا مطمئنًا.

وكانوا يذكرون دائمًا عهد الله، وأنّه أخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، وأن الحق هو ما جاء به محمد عن ربّه لهداية البشر وصلاح حالهم.

وكانوا يزنون أنفسهم دائمًا بميزان الكتاب والسنّة، فما وجدوا من زيغ أو عوج قوّموه في الحال بالرجوع والإنابة، كما يفعل المفتونون بالجسمانيات في عصرنا هذا في وزن أبدانهم كل شهر ...

- ٢ * -

وكان العلماء يردّون كلّ ما اختلفوا فيه من كل شيء، إلى كتاب الله وسنّة رسوله، لا إلى قول فلان، ورأي فلان، فإذا هم متّفقون على الحق الذي لا يتعدد. ولقد أنكر مالك على ابن مهدي- وهو قرينه في العلم والإمامة- عزمه على الإحرام من المسجد النبوي، فقال ابن مهدي: إنما هي بضعة أميال أزيدها، فقال مالك: أوَما قرأت قوله تعالى: {فَئيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وأية فتنة أعظم من أن تسوّل لك نفسك أنك جئت بأكمل مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كلامًا هذا معناه ... ثم تلا قوله تعالى: {ائيَوْمَ أَكْمَئتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وقال كلمته الجامعة التي كأن عليها لألاء الوحي، وهي قوله: "فما لم يكن يومئذٍ دينًا فليس اليوم بدين".

وكانوا يحكمون دينهم في عقولهم، ويحكمون عقولهم في ألسنتهم، فلا تصدر الألسنة إلا بعد مؤامرة العقل، ويعدون العقل مع النص أداة للفهم معزولة عن التصرّف، ومع المجملات ميزانًا للترجيح، يدخل في حسابه المصلحة والضرورة والزمان والمكان والحال،


* مجلة "المنهل"، صفر ١٣٧٢هـ / نوفمبر ١٩٥٢م، جدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>