أكثر مما يعلمهم بأقواله ... لعلمه- وهو سيد المرسلين- بما للتربية العملية من الأثر في النفوس، ومن الحفز إلى العمل بباعث فطري في الاقتداء، وقد رأى مصداق ذلك في واقعة الحديبية حين أمر أصحابه بالقول فتردّدوا، مع أنهم يعلمون أنه رسول الله، وأنه لا ينطق عن الهوى، ثم عمل فتتابعوا في العمل اقتداءً به وكأنهم غير من كانوا.
كان الصحابة لاستعدادهم القوي لتحمّل الإسلام بقوة يحرصون على أخذ همات العبادات من فعله - صلى الله عليه وسلم -، كما يحرصون على التمثّل بأخلاقه والتقليد له في معاملته لله ومعاملته لخلقه، وعلى التأسي به في الأفعال والترك في شؤون الدين والدنيا، لعلمهم أن الفعل هو المقصد والثمرة، وأن الأقوال في معظم أحوالها إنما هي أدوات شرح، وقوالب تبليغ وآلات أمر ونهي، ووسائل ترغيب وترهيب، وأن في قول قائلهم:"أنا أشبهكم صلاة برسول الله" لدليلًا على تغلغل هذه النظرة في مستقرّ اليقين من بصائرهم، وأنهم كانوا يتشدّدون في أخذ الصور العملية من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كما هي، ويتحرجون من التقصير فيها، ومرماهم في ذلك أن العمليات المأخوذة من طريق العيان أقرب إلى اليقين وموافقة مراد الله منها، وبذلك تتحقق آثارها في النفوس، وقد كانوا يفهمون العبادة بهذا المعنى: أن تعبد الله كما شرع على الوجه الذي شرع، فالكيفيات داخلة في معنى التعبّد، لذلك لم يحدث السلف زوائد على العبادات من أذكار وغيرها بدعوى أنها زيادة في الخير، كما عمل الخلف، وكانوا يفهمون يسر الدين بمعناه السامي وهو أنه لا إرهاق فيه ولا إعنات، وأنه ليس في المقادير الزائدة عن إقامة التكاليف أو في المعاذير الصحيحة العارضة للتكاليف، لا كما نفهمه نحن تساهلًا وتطفيفًا. فهم علماء السلف الإسلام كاملًا بعقائده وعباداته وأحكامه وأخلاقه وفهموا ما بين هذه الأجزاء من الترابط والتماسك ووحدة الأثر والتأثير، وأنها- في حقيقتها- شيء واحد، هو الدين، وهو الإسلام، وأن ضياع بعضها مؤذن بضياع سائرها، أو هو ذريعة له، فلا يقوم دين الله في أرضه إلا بإقامة جميعها، وإذا قال القرآن:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ...
فمعناه إقامة جميعها، وأنه ليس من هذا الدين أن يصلي المسلم ثم يكذب، ولا أن يذكر الله ثم يحلف به حانثًا باللسان الذي ذكره به متقرّبًا إليه، ولا أن يمسك عن الطعام ثم يأكل لحوم الخلق، ولا أن يخاطب ربّه:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ثم يتوجّه إلى غيره عابدًا ومستعينًا فيما هو من خصائص الألوهية، ولا أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، ولا أن يأمر الناس بالجهاد ثم يرضى لنفسه بأن يكون مع الخوالف، أو ببذل المال في سبيل العلم ثم يقبض يديه كأنه خارج من التكليف، أو بالبر وينسى نفسه، ولا أن يترخّص في الحق إرضاءً لغوي أو غني ولا أن يؤخّر كلمة الحق عن ميقاتها حتى يضيع الحق.
وكان كل واحد منهم يرى أنه مستحفظ على كتاب الله، ومؤتمن على سنّة رسوله، في العمل بها وتبليغها كما هي، وحارس لهما أن يحرفهما الغالون أو يزيغ بهما عن