للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عروبة الشمال الافريقي *

عروبة الشمال الافريقي بجميع أجزائه طبيعية، كيفما كانت الأصول التي انحدَرت منها الدماء، والينابيع التي انفجرت منها الأخلاق والخصائص، والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد؛ وهي أثبتُ أساسًا، وأقدم عهدًا، وأصفى عنصرًا، من إنكليزية الإنكليز، وألمانية الألمان.

قضت العروبة بقوّتها وروحانيتها وأدبها وسموّ خصائصها وامتداد عروقها- في الأكرمين الأُوَل من نبات الصحارى وبناة الحضارات فيها- على بربرية كانت منتشرةً بهذا الشمال، وبقايا آرّية كانت منتشرةً فيه، وفعل الزمن الطويل فعله حتى نسيَ الناس ونسي التاريخ الحديث أنّ هنا جنسًا غير عربي؛ وضرب الإسلام بيُسره ولطف مدخله، وملاءمة عقائده للفطر، وعباداته للأرواح، وآدابه للنفوس، وأحكامه للمصالح، على كل عرق ينبض بحنين إلى أصل، وعلى كل صوت يهتف بذكرى إلى مَاضٍ بعيد؛ وزاد العروبة تثبيتًا وتمكينًا في هذا الشمال هذه الأبجدية العربية الشائعة التي حفظت أصولَ الدين، وحافظت على متون اللغة، ودوّنت الآداب والشرائع، وكتبت التاريخ، وسجَّلت الأحكام والحقوق، وفتحت الباب إلى العلم، وكانت السبيلَ إلى الحضارة.

كل هذه العوامل صيّرت هذا الشمال عربيًّا قارَّ العروبة على الأُسس الثابتة من دين عربي، ولغة عربية، وكتابة عربية، وآداب عربية، ومنازع عربية، وتشريع عربي، وجاء التّاريخ- وهو الحَكَم في مثل هذا- فشهد وأدَّى، وجاءت الجغرافيا الطبيعية فوصلت هذا الشمال بمنابت العروبة من جزيرة العرب، وجاء الزمن بثلاثة عشر قرنًا، تشهد سِنوها وأيّامها بأنها فرغت من عملها، وتمّ التمام، ووقع الختم، وأن عروبة هذا الوطن جرَتْ في مجاريها


* نشرت في العدد ١٥٠ من جريدة «البصائر»، ٩ أفريل سنة ١٩٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>