للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طبيعيةً منسابة، دم يشُبها إكراه، ولم يشِنها عنف، ولم يؤثّر فيها عامل دخيل، ولم تقُم على تحيُّل أو استغفال، وإنما هي الروح عرفت الروح، والفطرة سايرت الفطرة، والعقلُ أعدى العقل، وكأنّ الأمم التي كانت تُغطِّي هذه الأرض قبل الاتصال بالعرب، كانت مهيأة للاتصال بالعرب، أو كأنّ وشائج من القربى كانت مخبوءة في الزَّمن، فظهرت لوقتها، وكانت نائمة في التاريخ فتنبَّهت لحينها؛ وإن الأمم لتتقارب بعد أن كانت متباعدة، مثل ما تتباعد بعد أن كانت متقاربة، ولا يتوقف التقارب إلّا على دعوة مصحوبة بحجّة، أو حادثة مقرونة برجَّة، وكلتاهما وُجدت في الإسلام.

إن كل ما يحتجّ به القادحون في عروبة هذا الشمال هو حجة عليهم، فالدُّوَل التي قامت فيه- كاللمتونية والرستمية والموحّدية والصنهاجية والمرينية والزيَّانية- ليس لها من البربرية إلا النسبة العرفية، وهي فيما عدا ذلك عربية صميمة: عربية في الضروريات المقوّمة للدولة، كوظائف القلم من إدارية ومالية، ووظائف القضاء من عقود وتسجيلات، وعربية في الكماليات التي تقتضيها الحضارة والترف، كالغناء والموسيقى والشعر، فما علمنا أن شعراء البلاطات في تلك الدول تقرّبوا إلى الملوك بالشعر البربري، إلا أن يكون في النادر القليل، وفي حال الاصطباغ بالبداوة الأولى.

...

هذه العروبة الأصيلة العريقة في هذا الوطن، هي التي صيّرته وطنًا واحدًا، لم تفرّقه إلا السياسة، سياسة الخلاف في عصوره الوسطى، وسياسة الاستعمار في عهده الأخير؛ وهذه العروبة هي مساكه على كثرة المفرّقات، وهي ملاكه على وفرة العوامل الهادمة، وهي رباطه الذي لا ينفصم، ببقية أجزاء العروبة في الشرق، وهي السبب في كل ما يأخذ من تلك الأجزاء وما يعطيها، فينصرُها في الملمَّات، ويتقاضاها النصر في المهمات؛ فالعالم العربي بهذه العروبة المكينة كالجسد الواحد إذا ألمّ بجزء من أجزائه حادث، أو نزلت به مصيبة، تداعت له سائر الأجزاء بالنصرة والغوث، أو بالتوجّع والامتعاض؛ وقد امتُحن المغرب الأقصى- وهو عضو رئيسي من هذا الجسد- هذه المحنة التي لم نزلْ في عقابيلها، فهبّت مواطن العروبة كلُّها صارخةً في وجه العادي، فقال كل عاقل في الدنيا: إن هذا التضامن طبيعيّ، لأنه حنين العرق إلى العرق، ومجاوبة الروح للروح، ونداء الدّم للدّم، وأنه فيض من شعاب الفطرة الإنسانية، لا تملك القوة المادية زمامه، ونعرة من ذوي رحم، لا يتوجّه إليهم فيها اللوم فضلًا عن المؤاخذة، وهل يُلام يهود أميركا على انتصارهم لإخوانهم يهود ألمانيا؛ وهل يُلام فرنسيّو كندا إن توجّعوا لكارثة حلّت بإخوانهم في فرنسا؛ إنها نعرة طبيعية لم يضعفها الإغراق في البداوة، ولم يخفّفها

<<  <  ج: ص:  >  >>