للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإمعان في الحضارة، ولم يشذّ بها دين ولا علم، وما العرب إلا من الناس، وما هم بأقلّ حظًّا في الإنسانية من الناس.

...

هذا هو فجّ الحقائق الذي يسلكه العقلاء فلا يضلّ بهم سبيل، ولا يفسُد عليهم تعليل، فأما الاستعمار فإنه يسلك في ذلك كله فجاجًا طامسة الأرجاء، فيتناول الحقائق الثابتة بالتشويه والمغالطة، ثم بالمكابرة فيها، ويُجادل بالباطل ليُدحض به الحق، وكأنّ سُنن الله (مستعمرة) أيضًا. فهو ينقلها من رُقعة إلى رقعة كقطَع الشطرنج، إذا خالفت سنّته هو، وينقض قوله بفعله، وفعله بقوله، كلما أفحمه المنطق وأوهى حجّته.

ينكر الاستعمار عروبة الشمال الافريقي بالقول، ويعمل لمحوها بالفعل، وهو في جميع أعماله يرمي إلى توهين العربية بالبربرية، وقتل الموجود بالمعدوم، ليتمّ له ما يريد من محو واستئصال لهما معًا، وإنما يتعمد العربية بالحرب لأنها عماد العروبة، وممسكة الدين أن يزول، ولأن لها كتابة، ومع الكتابة العلم، وأدبا، ومع الأدب التاريخ، ومع كل ذلك، البقاء والخلود، وكل ذلك مما يُقضّ مضجعه، ويُطير منامه، ويصخّ مسمعه، ويُقصِّر مقاهه.

وما هذه البدَوات التي تبدو منه حينًا بعد حين، إلا وسائلُ لمَحْو العربية ونقص العروبة من أطرافها، فكلّما هاجتْ به النَّوْبة، وغاظه من العروبة هذا التحدّي، وهذا الصمود للعوادي، وهذا التصلُّب في المقاومة، ارتكب جريمة، وسنّ لها من القوانين ما يقوّلها ويُغطِّيها، ويُسمّيها مصلحة، وجنّد لها من الأشخاص كل حاكم، وكل طامع، وكل ذي دِخلة سيئة، ومن الأعمال: التطبيل والتزمير، والإعلان والتشهير، ومن المعاني الاستمالة والتيسير والاستهواء والتغرير، والإغواء والتبشير، وما الظهير البربري في ذلك الباب بأول ولا أخير.

كل ذلك الجهد، ومثلُه معه مصروف إلى غاية واحدة، وهي محو العربية وقتل العروبة، وكل ذلك الجهد مردف بجهد آخر في إحياء المعاني الميتة التي قتلها الإسلام من بِدع وضلالات ...

ومن أباطيل الاستعمار وتهافته، أنه يسمِّي السوداني المتجنِّس بالجنسية الفرنسية ليومه أو لساعته: فرنسيًّا، ويلحقه بنسَبه، ويُساويه به في حقوقه ومميزاته، ثم ينكر على البربري - مثلاً- أن يكون عربيًّا، بعد ما مرّت عليه في الاستعراب ثلاثة عشر قرنًا وزيادة، وبعد أن درج أكثرُ من ثلاثين جيلًا من أجداده على الاستعراب، لا يعرفون إلا العربية لغةً يتكلّمون بها ويتأدّبون ويتعبّدون، فليت شعري: أيهما أقرب إلى الواقع: آلْبَرْبَرِيّ المستعرب، أم السوداني المتفرنس؟ وأيهما أنفذ؟ أحكم الله، أم حكم الاستعمار؟

<<  <  ج: ص:  >  >>