للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيها قليلًا من جو المقهى ... وفي ظل هذه الجواذب التقت الجمعية بالشبّان وقامت بحق الله فيهم فنظّمت لهم فيها محاضرات تهذب بها أخلاقهم وتعرّفهم بأنفسهم وقيمتهم ومنزلتهم في الأمة وتجمع قوّتهم، ودروسًا تعلّمهم بها دينهم ولغتهم وتاريخهم، فكان لمشروع "النوادي" آثار في الشبان تساوي آثار المدرسة في الأطفال وتفوق آثار المساجد في الشيوخ والكهول، ومن النوادي خرج الشبّان إلى المسجد يؤدّون حق الله، وإلى ميادين العمل يؤدون واجبات المجتمع.

ولكن الاستعمار كعادته ضاق ذرعًا بهذه الثورة الفكرية التي أحدثتها في الشيوخ والكهول دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، وأشعلتها في الشبّان محاضرات النوادي، ولم يطق على هذه الحالة، فأصدر الحاكم العام أمرًا بمنع رجال جمعية العلماء من إلقاء الدروس في المساجد (الحكومية) لأنها- في رأيه- دروس سياسية، وبعد مدة أصدر أمرًا آخر بحرمان النوادي من بعض الامتيازات كبيع القهوة والشاي لأعضائها وبالتسوية بينها وبين المقاهي العمومية في الخضوع لإشراف العمومية ... ومغزى هذا القرار- الذي له في الجزائر نفوذ القانون- هو إغلاق النوادي لأنها لا تقوم إلا على أثمان المشروبات التي تقدمها لأعضائها، فإذا حرمت منها لم يبق لها مورد إلا اشتراكات الأعضاء وهي لا تكفي.

أما الجمعية فإنها قابلت هذه القوانين الشديدة بعزائم أشدّ، ونقلت دروس الوعظ من بيوت الله التي تسلّطت عليها فرنسا إلى حيث يمكن من أرض الله، في البيوت وفي القاعات، وفي المدارس، وفي المدارس الحرة التي أنشأتها الأمة بإرشاد جمعية العلماء وعددها نحو المائة وهي منتشرة في القطر. وأما النوادي فقد تحدّت الجمعية القرار المتعلق بها واستمرّت على إلقاء المحاضرات فيها واستعانت بعزائم الشبّان التي لم تتأثر بآثار ذلك القرار السخيف، والأمر على ذلك إلى الآن، والحرب بيننا وبين الحكومة في شأنها سجال، والمخالفات والتغريمات تملأ السجلات.

رابعًا- بناء المدارس:

وهذا الفصل- وإن أخّرنا الحديث عليه- هو الغرة اللائحة في أعمال جمعية العلماء، وهو سجل الفخار في تاريخها وتاريخ الجزائر الحديث، وسيلتقي المؤرّخ المنصف والمؤرّخ الجائر في الحكم عليها، لأنها أبنية ومآثر، ولأنها همم وعزائم ولأنها قوة ولّدها الضعف.

كانت الجزائر كلها خالية من المدارس العربية النظامية الحرة إلا كتاتيب قرآنية كلها فوضى مهدّدة بالإغلاق في كل حين، ولو بأمر أحقر موظف حكومي، وتعليم العربية في المدارس الحكومية اسم بلا مسمّى وعلم بلا علم. ثم قامت جمعية العلماء منادية بإحياء

<<  <  ج: ص:  >  >>