للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العربية على رغم أنف الاستعمار، وكان عملها في السنوات الأولى ما وصفنا وكانت المدارس في تلك السنوات لم تنته إلى العشر، ولكنها بعد حملة المحاضرات وتأثّر الأمة بها وتأجج حميتها للغتها، ثارت الرغبات الكامنة فيها واحتدّ التنافس في هذا الميدان في المدن والقرى، فقفز عدد المدارس من عشرة إلى عشرات وفيها الفخم الضخم الذي يقلّ نظيره في مدارس الحكومة، وفيها ما يحتوي على ثمانية عشر فصلًا، وجميعها مستوفٍ للشرائط كلها على أحدث طراز، ومعظم هذه المدارس شيّدتها الأمة بأيديها وبأموالها والقليل منها مؤجّر، ووضعت المناهج الابتدائية مقتبسة من مناهج وزارة المعارف المصرية، وبينما الحركة في اشتدادها وامتدادها قامت الحرب العالمية الأخيرة فأوقفت كل شيء وعطّلت فرنسا جميع مشاريع جمعية العلماء بصورة كلها تشفٍ وانتقام، وأبعدت كاتب هذه المذكّرة إلى صحراء "وهران" بعيدًا عن العمران في صورة إقامة جبرية إلى انتهاء الحرب، ومات باني هذه النهضة العلمية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس في أوائل سنة أربعين، فلما أطلق سراح كاتب هذه السطور بعد ثلاث سنوات من اعتقاله، استأنف العمل من أول يوم وبدأ يبعث الحركة من جميع جهاتها: فمن تحريك الشعور السياسي وتنظيم حركة سياسية، إلى مجاراة فورة الأمة في سبيل التعليم. وكان الاحتلال الأمريكي جاثمًا على الجزائر، والأحزاب السياسية تعيث وتعيث، وهو يسعى في جمعها فتفرّقها الأهواء والرعونات، فرأى أنه إذا ضاعت على الأمة الفائدة السياسية بسبب الوضع الحاضر، فلن تضيع عليها الفائدة العلمية، والعلم تسليح، وفي تلك السنة نفسها شيّدت الأمة سبعين مدرسة. وهالت تلك الحركة المتجددة فرنسا فأسرتها في نفسها إلى يوم انتهاء الحرب، فكان حقدها على جمعية العلماء أحد الأسباب في تلك البطشة الرعناء التي بطشتها بالجزائر يوم ٨ ماي سنة ١٩٤٥ فقتلت فيها عشرات الآلاف من أنصار جمعية العلماء واعتقلت مثلهم، وأغلقت مدارس الجمعية كلها بدعوى أنها قلاع للعمل ضدها، ومزارع لغرس بغضها في قلوب الجزائريين، وهذان الوصفان رسميان من كلام الحكومة في تبرير عملها الفظيع، وسجنت كاتب هذه السطور في السجن الحربي تمهيدًا لمحاكمته عسكريًا بتهمة الثورة، وقد كان رجال جمعية العلماء آخر من سرّحتهم من المعتقلات نكاية فيهم وحقدًا عليهم.

ما كادت هذه الغمرة تنجلي حتى رجعت الجمعية إلى عملها أقوى مما كانت صلابة وعزيمة وإيمانًا، ونشطت حركة تأسيس المدارس حتى بلغت الآن مائة وبضعًا وأربعين مدرسة. وبلغ مجموع ما أنفقت الأمة عليها من مالها بل من ثمن خبزها تشييدًا وتعميرًا ما يقرب من ألف مليون فرنك، وبلغ مجموع تلامذتها الابتدائيين في الوقت الحاضر نحو خمسين ألف تلميذ من بنين وبنات، وبلغ عدد التلامذة المتخرّجين منها من مبدإ الحالات نحو مائتين وخمسين ألف تلميذ، وبلغ مجموع المعلّمين في هذه المدارس نحو أربعمائة معلم

<<  <  ج: ص:  >  >>