للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا مصر ... *

نسمّيك بما سمّاك الله به في كتابه، فكفاك فخرًا أنه سمَّاك بهذا الاسم الخالد الذي تبدَّلت أوضاعُ الكون ولم يتبدّل، وتغيّرت ملامح الأرض ولم يتغيّر، وحسبك تيهًا على

أقطار الأرض أنه سمّاك ووصفها، فقال في فلسطين: {الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} و {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، وقال في أرض سبأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} ولم يُسمّ إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قرية، فتيهي وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفالَ على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمّة رعاية لا تُخفر، وبجوار أمن لا يخزى جاره.

نأسى لك- يا مصر- أن أنزلتك الأقدار بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء وجرّت عليك الشقاء، وأن حبتك هذا الجمال الذي جذب إليك خُطّاب السوء من الأقوياء الطامحين؛ والقوّاد الفاتحين، وأن أجرى فيك هذا الوادي العذب الذي كان فتنة الخيال البشري، فلم يقنع لمائه إلا بأن ينبطه من الجنة، وكان وثن القدماء من روّاده فتقرّبوا إليه بالنذور والقرابين، وكان طغوى فرعون ذي الأوتاد، فحرّك فيه نزعة الألوهية، فتوهّم أن شاطئيه الأخضرين هما نهاية الكون، وأنهما كفاء لملك الله الطويل العريض، وأن وضعك من هذا الكوكب الأرضي في موضع الواسطة من القلادة، فتعلّقت بك الابصار حتى "كأنَّ عليك من حدق نطاقًا"؛ وأن جعلك برزخًا فاصلًا بين الشرق والغرب، فكنتِ- على الدهر- مجال احتراب بين الشرق والغرب، فصبرًا يا مصر فهذا الذي تعانيه هو مغارم الجمال والشرف والسّلطة.

...

سمّوك "عروس الشرق" فكأنما أغروا بك الخطّاب، وهجهجوا فيك الآساد الغلاب، ووسموك "بمنارة الشرق" فلفتوا إليك الأعين الخزر، ولووا نحوك الأعناق الغلب، ولو دعوك


* نشرت في العدد ١٧٨ - ١٧٩ من جريدة «البصائر»، ١٧ جانفي سنة ١٩٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>