للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"لبؤة الشرق" لأثاروا- بهذا الاسم- في النفوس معاني رهيبة، منها دقُّ الأعناق، وقصم الظهور، وتقليل الأعضاء، وقديمًا سمّوا بغداد "دار السلام" فجنوا عليها، وكأنّما دلوا المُغيرين عليها، ولو سمّوها "دار الحرب"، لأوحى الاسم وحده ما تنخلع منه قلوب الطامعين وتخنس له عزائمهم، وتنكسر لتصوّره الجيوش اللجبة، فغفرًا- يا مصر- فما هذه الأسماء إلا من هُيام الشعراء.

...

وما زلت- منذ كنت- مهوى أفئدة العظماء الفاتحين، فأخذوك اقتسارًا وصلحًا، وحازوك طوعًا وكرهًا، وما منهم إلا من مَهرك المهر الغالي، وساق إليك الثمين المدَّخر، بما خلّد فيك من آثاره، وبما خلّف فيك من سمات قومه ومعانيهم: حازك الإسكندر فخلد فيك الإسكندرية، وملكك قمبيز فخلّف فيك شيات من فخار فارس وخيلائها، وحلّ فيك بطليموس فخلّف فيك أثارةً من حكمة يونان، وداعبَك قياصرة الرومان فخلّفوا فيك أثرًا من عظمة الرومان، وفتحك عمرو، فمهرك بيان العرب كلّه وهداية الإسلام كلها، ففخرًا- يا مصر- فهذه المخايلُ اللائحة على صفحاتك هي بقايا مهورك الغالية، وإن أثمنها قيمة- وحقّك- وأثبتها أثرًا، وابقاها بقاء، وأشبهها بشمائلك،- لمهر عمرو ... فما زلت منذ تفيّأت ظل الإسلام الظليل، تجدين منه في كل داجية نجمًا، ووراء كل داجية فجرًا، وما زلت كلّما شكوت ضرًّا في دينك، يخفّ إليك من يكشفه، وكلّما شكوت شرًّا في دنياك، يخف إليك من يدفعه.

خفّ إليك "جوهر" حين لحقتك علامةُ التأنيث، وتقلّب على فراشك العبيد، وخفّ إليك "صلاح الدين" حين امتُهِن فيك الدين، وخفّ إليك "سليم" حين لعبت بك أهواء المماليك، وخفّ إليكَ "علي" حين تحكّم فيك الصّعاليك، تأخّروا بركبك عن زمانك، فألحقك بزمانك، وبالقوافل السائرة من بني زمنك، وأراد لك أن يكون محلُّك من الغرب أمامًا، وأن تكوني من الشرق أمًّا وأمَّةً وإمامًا، فما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثورًا، ووضعوا لك في كل فجّ فخًّا، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في برّ، فمِن بعض ذلك كلّ ما تُعانين.

لئن كانت أزماتك في التاريخ كثيرة، فكلها إلى انفراج عاجل، ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تُبتلى بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدّهما زمنه بالقوّة والأيد، وأن يستحلّ حرماتك غاصب غريب لا تجمعك به نسبة لشرق، ولا يلتفّ منكما- إلى آدم- عرق بعرق، فيجعل منك أداة لكيده، وجارحةً لصيده، ومطية لصولته، وطريقًا لظلمه وظلامه ... فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك لكان لك شركة في كل ما حمل الإنكليز من أوزار، ولحمَّلك العدل كفلًا من مأثمهم في الشرقين ...

<<  <  ج: ص:  >  >>