للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى الكتّاب *

للبصائر طرفان: أعلى وهو معرض العربية الراقية في الألفاظ والمعاني والأساليب، وهو السوق الذي تجلب إليه كرائم اللغة من مأنوس صيّره الاستعمال فصيحًا، وغريب يصيّره الاستعمال مأنوسًا، وهو مجلى الفصاحة والبلاغة في نمطهما العالي، وهو أيضًا النموذج الذي لو احتذاه الناشئون من أبنائنا الكتّاب لفحلت أساليبهم واستحكمت ملكاتهم مع إتقان القواعد ووفرة المحفوظ.

ولهذا الطرف رجاله المعدودون، وهو نمط إعجاب أدباء الشرق بهذه الجريدة.

وطرف أدنى، وهو ما ينحط عن تلك المنزلة، ولا يصل إلى درجة الإسفاف، وبين الطرفين أوساط ورتب تعلو وتنزل، وهي مضطرب واسع يتقلب فيه كتّابنا، من سابق إلى الغاية مستشرف لبلوغها ومقصر عن ذلك.

ولكن بعض الكتّاب- هداهم الله رشدهم- بالغوا قبل أن يبلغوا، فهم يوافوننا بمقالات دون الطرف الأدنى، فنضطر إلى إهمالها اضطرارًا فيلوذون بحق (التشجيع) ... فليعلموا- علّمهم الله- أن التشجيع لا يكون على حساب اللغة وتراكيبها، ولا على حساب "البصائر" ومنزلتها، وليفهموا أن الاعتماد على التشجيع، معطّش ومجيع.

ونصيحتنا إلى هؤلاء وإلى ناشئتنا الكاتبة أن ينظروا لأنفسهم وأن يعتمدوا عليها، وأن يُدمنوا القراءة لآثار فحول الكتّاب من قدماء ومحدثين، وأن يحملوا أقلامهم على احتذائها بالتدريج، وأن يتكثروا بحفظ اللغة الأدبية، ويتبصروا في مواقع استعمالها في التراكيب، وأن يكونوا عصاميين في الأدب والكتابة، فإن المعاهد التي تقلبوا فيها للتحصيل لا تخرّج أديبًا ولا كاتبًا، ما دام حظ البيان فيها منزورًا، وعلم اللغة والإنشاء فيها مهجورًا، والأدب العربي فيها لا يدرس قصدًا، وإنما تعرض نتفه عرضًا.


* "البصائر"، العدد ٨٦، السنة الثانية من السلسلة الثانية، ١١ جويلية ١٩٤٩م. (بدون إمضاء).

<<  <  ج: ص:  >  >>