للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إبليس ينهى عن المنكر! ... *

من خصائص المدرسة الاستعمارية الفرنسية في تخريج تلامذتها أنها لا تجري على منهاج المدارس العلمية في الاعتداد بالسنوات والدرجات، ثم الاعتماد على الشهادات والإجازات، إنما تجري على المنهاج الطُرقي الحديث في تربية المريدين، وهو منهاج عجيب، مبنيٌّ على اختصار الوقت واختزال الطريق واستعجال النفع من المُريد لا للمُريد، من أوجُه الشبه بين المدرستين الاستعمارية والطرقية الحديثة اللتين اصطحبتا في النشأة، وتقارضتا النصر والمعونة، أنّ العلم ليس شرطًا في واحدة منهما، بل ربّما كان الجهل شرطًا في صحة الانتساب إليهما، وفي كمال الاكتساب منهما؛ وما معنى الخصوصية إذا لم يكن هذا؟ ... وإنما مبنى الأمر فيهما على المواهب والحظوظ (وعلى اللحظات) من أساتذة الأولى ومشائخ الثانية؛ فلحظة من الأستاذ ترفع التلميذ درجات، ولحظة من الشيخ تدفع المريد إلى النهايات، هذا كله باعتبار الأصل العام، ثم تأتي الشروط الإيجابية والسلبية في كل فرد؛ وأهمّها في الإيجاب الاستعداد للشرّ في التلميذ، وأهمّها في السلب التجرّدُ من الدين والفضيلة، وتأتي بعد الأهمّ مهماتٌ في الطرفين، كالسمع والطاعة والإخلاص، وكالتسليم في المشخِّصات الإنسانية، وموت الضمير الآدمي، وإخماد الشعل الفكرية وقطع العلائق الفطرية مع القوم والجنس والوطن.

هذه المدرسة الاستعمارية تهيئ تلامذتها أو مريديها للشر، وتروّضهم عليه في حال تطول قليلًا، أو تقصُر جدًّا، على نسبة استعداد التلميذ، وإنما تروّض نفوسهم على الشر بالجملة، فإذا جاء دور التفصيل لم يعجزها أن تُلبس الفاتك منهم لباسَ الناسك، وتقلِّد الراعي وظيفة الداعي، وتسِمَ الخلي بسِمَة الوليّ؛ وتحرّك لسان الماكر بورد الذاكر، وتؤزّر أولاد الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقابَ الملوك.


* نشرت في العدد ١٤٣ من جريدة «البصائر»، ١٩ فيفري سنة ١٩٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>