للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

- ٣ * -

... أما علماء الخلف فهم أقل من أن تسمّيهم علماء دين، وأقل من أن تسميهم علماء دنيا. أما الدين فإنهم لم يفهموه على أنه نصوص قطعية من كلام الله، وأعمال وأقوال تشرح تلك النصوص من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، ومقاصد عامة تؤخذ من مجموع ذلك ويرجع إليها فيما لم تفصح عنه النصوص، وفيما يتجدد بتجدّد الزمان، لم يفهموه على أنه عقائد يتّبع العقل فيها النقل، وعبادات كملت بكمال الدين. فالزيادة فيها كالنقص منها، وأحوال نفسية صالحة هي أثر تلك العقائد والعبادات وآداب تصلح المعاملة وتصحّحها بين الله وبين عباده وبين العباد بعضهم مع بعض، بل فهموا الدين وأفهموه على أنه صور مجرّدة خالية من الحكمة، وحكموا فيه الآراء المتعاكسة والأنظار المتباينة من مشايخهم، حتى انتهى بهم الأمر إلى اطّراح النصوص القطعية إلى كلام المشايخ، وإلى سدّ باب الفكر بالتقليد، وتناول حقائق الدين بالنظر الخاطئ والفهم البعيد، والفكر كالعقل نعمة من نعم الله على هذا الصنف البشري، فالذي يعطله أو يحجر عليه جانٍ مجرم، كالذي يعطل نعمة العقل، ولعمري ان سدّ باب الاجتهاد لأعظم نكبة أصابت الفكر الإسلامي، وأشنع جريمة ارتكبها المتعصبون للنزعات المذهبية.

وأما الدنيا فليسوا علماء دنيا بالمعنى الأعلى لهذه الكلمة، وهو أن يعالجوا الكسب بطرق علمية، ويدرسوا وسائل الثراء بعزائم صادقة، ويضربوا في الأرض لجمعِ المال بكد اليمين، وعرق الجبين، أما المعنى السخيف لهذه الكلمة فهم أوفر الناس حظًا منه، فهم يطلبون المعيشة بأخس وسائلها، فيحصلون منها على فتات الموائد يشترونه بدينهم وماء وجوههم، هانوا على أنفسهم فهانوا على الله وعلى الناس فرضوا بالدون والهون.

نعني بعلماء الخلف هذه العصابة التي نشهد آثارها ونسمع أخبارها، ونحدّدها تحديدًا زمنيًا بمبدإ المائة العاشرة للهجرة من يوم بدأت الشعوب الإسلامية في التفكّك والانهيار، ولم يظهر لهؤلاء العلماء أثر في دفع البلاء، قبل إعضاله، بل كانوا أعوانًا له وكانوا بعض أسبابه، وإنما نحدد هذا التحديد متساهلين ... وإن كان المرض ممدود الجذور إلى ما قبل ذلك الحد من القرون، ولكن المرض لم يصل إلى درجة الإعضال إلا في المائة العاشرة وما


* مجلة "المنهل"، ربيع الأول ١٣٧٢هـ / ١٩٥٢م، جدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>