للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بعدها، أما عصرنا فهو آخر الدن، وآخر الدن دردي، كما في المثل. وإن الناظر في تاريخ العلم الديني الإسلامي يرى أن طوره الأول كان علمًا متينًا، وعملًا متينًا، وأن طوره الوسط كان علمًا سمينًا وعملًا هزيلًا، أما طوره الثالث والأخير فلا علم ولا عمل، إنما هو تقليد أعمى ونقل أبكم، وحكاية صمّاء، وجفاف جاف، وجمود جامد، وخلاف لا يثبت به حق، ولا يُنفى به باطل، ولا تتمكن به عقيدة، ولا تثبت عليه عزيمة، ولا تقوى عليه إرادة، ولا تجتمع معه كلمة، ولا ينتج فيه فكر ولا تستيقظ معه عزة، ولا تثور كرامة، ولا تتنبّه رجولة ولا نخوة، لأن الشخصية فيه موءودة، والروح المستقلة معه مفقودة، إنما هو تواكل يسمّونه توكّلًا، وتخاذل يسكنونه بالحوقلة والاسترجاع، وخلاف ممزّق لأوصال الدين يسمّونه رحمة، وإننا لا نعني بالعمل الذي جرى في كلامنا ما يفهمه المتخلفون الفارغون، ولكننا نعني به العمل لإعزاز الدين واعتزاز أهله به، والأمر بالمعروف حتى يتمكّن، والنهي عن المنكر حتى لا يكون له بين المسلمين قرار، وحراسة المجتمع الإسلامي أن يطرقه طارق الاختلال، أو يطوف به طائف الضلال وجمع المسلمين على هداية القرآن.

أذل الطمع أعناق علماء الخلف، وملكت "الوظيفة" عليهم أمرهم، وجرت عليهم الأوقاف المذهبية كل شر، فهي التي مكّنت لنزعة التقليد في نفوسهم، وهي التي قضت على ملكة النبوغ واستقلال الفكر فيهم، وهي التي طبعتهم على هذه الحالة الذميمة وهي معرفة الحق بالرجال، وهي التي ربطتهم حتى في أحكام الدنيا وأوجه الحياة- بالقرن الثاني لا في قوّته وعزّته وصولته بل في حبس ركاب عنده، وتعطيل دوران الفلك العقلي بعده، ولذلك لم يسايروا الزمن ولم يربطوا بين حلقاته فعاشوا بأبدانهم في زمن، وبأذهانهم في زمن، وبين الزمنين أزمنة، تحرّكت وهم ساكنون، ونطقت وهم ساكتون.

لو أن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان مصلحًا اجتماعيًا أو دينيًا- مع ما تهيأ له من القيمة الحربية- لما نقل حالة الأزهر من مذهب واحد إلى مذاهب أربعة، بل كان ينقله من ذلك المذهب الواحد الفرعي إلى أصل الأصول وهو الكتاب والسنّة، ولو فعل لأراح المسلمين من شرور الخلافات المذهبية، ولو وجد جميع ملابساته أعوانًا له على ذلك، لأن مصر كانت بمكان صلاح الدين فيها هي كل شيء وقد سئمت من المذهب الشيعي لغموضه وتناقضه، ولما تكشّف عنه الحاكم من سوءات، ولأن بغداد كانت مشغولة بنفسها عن نفسها، ولأن الشام وعواصمها كانت مغمورة بالحملات الصليبية، ولأن الأندلس والمغرب لم يتغلغل فيهما التعصّب المذهبي كما تغلغل في الشرق، فلو أن صلاح الدين ضرب الضربة القاضية ورجع بالناس إلى المذهب الجامع ثم جاءت انتصاراته المدهشة على الصليبيين، لأصبح بذلك صاحب مذهب متّبع في الإسلام، ولكنه- عفا الله عنه- لم يكن رجل هذا الميدان فلم يزد على أن وسع "التكية" للقعدة، وشيّد الضريح للفكر، وأبعد القافلة عن

<<  <  ج: ص:  >  >>