للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أعيادنا بين العادة والعبادة *

كلمتا العادة والعيد تجتمعان في أصل الاشتقاق اللفظي وتلتقيان على الاشتراك في المعنى الوضعي، ولكن الإسلام حينما شرع عيديه العظيمين بين بناء مشروعيتهما على معانٍ دينية جليلة وأبقى اللفظ للدلالة على الزمن الموقّت لتلك المعاني كما هو شأنه في جميع حقائقه وأحكامه القدرية والتكليفية والكونية المشهودة والمغيبة، يدل عليها بمفردات وتراكيب عربية مما يعرف الناس ويبقي لها جزءًا من المعنى يتصل بالمعاني الدينية أي اتصال أو يكون جزءًا منها ثم يصرف بقية الأجزاء من المعاني إلى الغرض الديني الكامل حتى لا يكون اللفظ منقولًا من معنى قديم أفرغ منه إفراغًا إلى معنى جديد شحن به شحنًا. وما كاد الإسلام يظلّل العرب بلوائه حتى كانت للألفاظ التي تصرف في معانيها الوضعية بالتخصيص أو التعميم أو غيرها من وجوه التصرّف مفهومة لا يلتوي فيها ذهن ولا يجافيها إدراك، وانتقلت مع الإسلام إلى الأمم الأخرى فإذا اللغة العربية قائمة بهذا الدين كأنما أعدّت له إعدادًا ووضعت وضعًا أوليًا خاصًا لمعانيه الدينية الجديدة، وكانت بذلك أحسن مؤد لحقائقه وأعظم حامل لأسراره، ويتلطف علماء البيان حينما يسمّون هذا النوع من التصرّف "الحقائق الشرعية"، يقابلون به الحقائق الوضعية. وهنا يتجلّى لطف الله وسماحة دينه إذ لم يجعل للدين لغة خاصة وللدنيا أخرى، بل جعل لغة الدنيا هي لغة الدين مع أن لغة الدنيا لا تتسع- في العادة- لحمل الحقائق العليا كصفات الله ولا لوصف الغيبيات المطلقة كالعوالم الروحانية وما بعد الموت ودار الجزاء.

لم يبقَ من معنى كلمة العيد في الإسلام إلا أنه يعود في زمن مقدّر، أما ما عدا ذلك فصرفه إلى معانٍ دينية مما ينفع الناس، ففي العيدين المشروعين أحكام تقمع الهوى، من


* مجلة "الأخوة الإسلامية"، العدد الحادي عشر، السنة الثانية، بغداد، ١٧ شوّال ١٣٧٣هـ الموافق لـ ١٨ جوان ١٩٥٤م.

<<  <  ج: ص:  >  >>