ورائها حكم تغذّي العقل، من تحتها أسرار تصفي النفس، من بين يديها ذكريات تثمر التأسي، في الحق والخير، وفي أطوائها عِبَر تجلي الحقائق وأمثلة عملية في الإحسان وتقوية ملكته وقواعد متينة في التربية الفاضلة وموازين تقيم المعدلة بين الأصناف المتفاوتة من البشر ومقاصد سديدة في حفظ الوحدة وإصلاح الشأن ودروس تطبيقية عالية في التضحية والإيثار والرحمة والمحبة، وهما مع ذلك كله ميدان استباق إلى الخيرات ومنافسة في المكرمات.
قرن الإسلام كل واحد من العيدين بشعيرة من شعائره العامة لها جلالها الخطير في الروحانيات، ولها خطرها الجليل في الاجتماعيات ولها ريحها الهابّة بالخير والبر والإحسان والرحمة، ولها أثرها العميق في التربية الفردية والجماعية التي لا تكون الأمة أمة صالحة للوجود نافعة في الوجود إلا بها.
هاتان الشعيرتان هما شهر رمضان الذي جاء عيد الفطر مسك ختامه، وكلمة الشكر على تمامه، والحج الذي كان عيد الأضحى بعض أيامه، والظرف الموعي لمعظم أحكامه، وناهيك بالشعيرتين منزلة بين شعائر الإسلام. وإنهما مظهر الامتحان الذي هو أساس التكليف وان كليهما سوق امتيار يمتار منه الموفقون طرائف الخير والعاملون لله فيه بالصدق والوفاء، وما كل تاجر رابح، وما كل متجر ربيح وما كل بضاعة من أعمال العاملين تروج عنه الله، وان شر ما باء به تاجر في تجارة أن يجتمع عليه التعب والخسارة.
هذا الربط الإلهي بين العيدين وبين الشعيرتين كافٍ في الحكم عليهما وكاشف عن وجه الحقيقة فيهما، وأنهما عيدان دينيان بكل ما شرع فيهما من سنن حتى ما ندب إليه الدين وهو في ظاهر أمره دنيوي كالتجمّل والتحلّي والتعطّر والتوسعة على العيال وإلطاف الضيوف والمرح واختيار المناعم والأطايب واللهو، مما لا يخرج إلى حد السرف والتغالي والتفاخر المذموم.
فمن تحرّر المحاسن في الإسلام أن المباحات إذا حسنت فيها النية وأريد بها تحقيق حكمة الله أو شكر نعمته انقلبت قربات، إلى الغاية التي نطق بها الحديث الصحيح:«حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ».
كِلا طرفي العيد في معناه الإسلامي جلال وجمال، وتمام وكمال، وربط واتصال، وبشاشة تخالط القلوب، واطمئنان يلازم الجنوب، وبسط وانشراح، وهجر للهموم واطراح، وكأنه شباب وخطته النضرة، أو غصن عاوده الربيع فوخزته الخضرة. فلو وصف العيد نفسه وصف الخائل المزهو وخلع على نفسه كل ما انتهى إليه خيال الشعراء لكان مقصّرًا عن الغاية مما وصفه الإسلام به ولكان نازلًا عن المنزلة التي وضعه فيها، وليس السر في يومه الذي يبتدئ بطلوع شمس وينتهي بغروبها، وإنما السرّ فيما يعمر ذلك اليوم من أعمال، وما يغمره من إحسان وافضال، وما يغشى النفوس المستعدّة للخير فيه من سموّ وكمال.