للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو المعقولة، وتراعي سنّة الله في الأنفس والآفاق، وتجري مع أوليائها وخصومها على الجدد الواضح. فلا تسلك بُنَيَّات الطرق، ولا تتبع مضلات العقول ولا خيالات الخياليين، ولما كانت تأوي إلى الركن الشديد من الدين فهي لا تتكثر بغير المؤمنين ولا تعتمد على غير الصادقين المخلصين؛ ولما كان موضوعها الأمة بنت أمرها معها على الصدق والثقة، تعمل للأمة بصدق، وتعمل معها بثقة؛ ولما كان الاستعمار الفرنسي هو الذي قضى على دين الأمة الجزائرية ودنياها، فقد جاهرته بالعداوة وتتبعته في كل ميدان، وفضحت مكايده، وكشفت عن مخازيه، وتحدت قوانينه بالرفض.

والعلاقة بين الجمعية والأمة علاقة روحية، ولذلك فهي تزداد مع كل حادث قوة وتماسكًا، لأن أول الدين وآخره سواء، وزاد هذه العلاقة متانة وتوثقًا أن الجمعية تعمل للأمة في النهار الضاحي وتعاملها على المكشوف، وتبني لها قبل أن تطالبها بالثمن، وتشركها في العمل. فالأمة هي التي تأخذ وهي التي تعطي، ويد الأمة هي التي تقبض وهي التي تدفع، فإذا مرّ شيء من المال بيد الجمعية مرّ عليها وهو منطلق إلى مصلحة شاركت الأمة الرأي المقرر لها والوسيلة المحققة لوجودها.

ونثبت لإخواننا الشرقيين في هذا الموضع حقيقة تاريخية، وهي أن كل ما يوجد اليوم في الجزائر من حركات فهو مدين لجمعية العلماء بوجوده، وكل ما يعلو فيها من أصوات فهو صدى مردد للكلمات النارية التي كان يقذفها لسان مبين يترجم عن علم مكين ودين متين، وهو لسان المرحوم باني النهضات الجزائرية من غير منازع الإمام عبد الحميد بن باديس في دروسه الحية وخطبه المثيرة من يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى أن توفّاه الله في أوائل الحرب العالمية الثانية.

[نشأة هذه الجمعية]

أطوار نشأة هذه الجمعية كأطوار نشأة الإنسان، فقد كانت في أعقاب الحرب العالمية الأولى فكرة تجول في خواطر جماعة قليلة من أصحاب الشواعر الحية والتأمّل العميق من علماء الجزائر، ثم استقرّت في ذهنين متجاوبين، أحدهما ذهن جبّار وهو ذهن عبد الحميد ابن باديس، ثم تناولها الذهنان بالإشاعة حتى أصبحت عقيدة ثم تتابعت الدواعي من انتشار الوعي في الأمة فأصبحت حقيقة، وكأن المتلاحق من أحوال الأمة قال لها: كوني فكانت، وجلاها الله لميقاتها، بلا بطء ولا إسراع.

تكوّنت في شكلها القانوني في أواسط عام ١٩٣١ ميلادية، وكأن الله جعلها تنقيصًا للاستعمار، فقد كان نشوانًا بخمرة الفرح لمرور مائة سنة على استقراره في الجزائر وقد قضى

<<  <  ج: ص:  >  >>