للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إننا نعرف العرب ونعرف أنهم قوم يزنون الحياة بغير ما تزنها به أمم البطون والفروج، وموازينهم في الحياة تدور على قطب واحد وهو المحمدة والذكر الحسن، وفي ذلك يقول أولهم- وما هو بالأول في هذا الباب- وهو يخاطب زوجته:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلًا فإني لست آكله وحدي

أخا طارقًا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

ويقول آخرهم، وما هو بالآخر في هذا الباب:

وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثًا حسنًا لمن وعى

((فصل))

وتضرب العرب المثل بالضب في عدة غرائز، فيضربون به المثل في الحيرة فيقولون:

أحير من ضب، ويزعمون- وهم أعرف الناس به- أنه إذا بَعُدَ عن جحره خبل ولم يهتد إليه على خلاف المعهود في أمثاله من سكّان الأجحار، وهو على خلاف المعهود في الطيور ذوات الأوكار، ويضربون به المثل في العقوق فيقال: "أعق من ضب"، ويفسّرون عقوقه بأنه يأكل حُسُولَهُ، جمع حِسْل وهي جراؤه الصغار وهو لَحِمٌ ونباتي معًا، واللحم هو الذي يأكل اللحم وجمع على لواحم. يقولون لا آتيك سِنَّ الحسل يعنون التأبيد إذ يزعمون أن الحسل لا تسقط له سن.

((فصل))

ويزعمون أن الضب له نزكان، أي ذكران واحدهما نزك، ويعدون هذا من فضائله وخصائصه، وكثيرًا ما فكرت في هذا الزعم، ما يصنع بالنزكين؟ أَيَكُوم بهما معًا في آن واحد؟ ويلزم من هذا أن يكون لأنثاه فرجان، أم يستعمل أحدهما حتى إذا كَلّ وفتر استعمل الآخر؟ كما يستعمل البطل سيفين على التعاقب احتياطًا لكلال أحدهما أو انثلامه، وإذا كان حقًا ما يقولون فلا نشكّ أن الخالق لم يخلقهما عبثًا، ولم أزل في ريب حتى قرأت حكاية عامل لخالد القسري، أهدى إليه في يوم نيروز سلة مملوءة ضبابًا وكتب معها أبياتًا في وصفها منها قوله:

ترى كل ذيّال إذا الشمس عارضت ... سما بين عرسيه سمو المخايل

حِسْلٌ له نزكان كانا فضيلة ... على كل حافٍ في البلاد وناعل

فوقعت في جرة أخرى من قوله: سما بين عرسيه لما يفهم منه أن له زوجتين، ولعلّ من خصائصه- ما دام محلًا للخصائص- أنه خلق بنزكين لِيَكومَ كل عرس بنزك،

<<  <  ج: ص:  >  >>