للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المدارس]

يتكلم بعض الأدباء والمتألهة عن عدد الثلاثة، ويتخيلون له من بين الأعداد سرًا يحومون عليه ولا يكشفون عنه، ويطرقون بابه ولا يلجون، ويعدون اعتباره في العادات والأديان، والإكثار من ذكره والتحديد به ظاهرة قديمة في العادات متفشية في الأديان واردة على ألسنة الرسل المعصومين، فالثلاثيات أو الثواليث هي أكثر شيوعًا من كل ما اشتق من الأعداد أو تصرف منها، ففي الإسلام التثليث في الطهارة، والثلاث في العصمة، والثلاثة والثلاثون في الذكر، وفي العادات تكرير اللفظ ثلاثًا للتأكيد، وفي كثير من أطوار الأدب العربي ثواليث من الشعراء تنتهي إليهم الشهرة في جيلهم وتقف، وفي الأخلاق ثواليث تتقارب في الأثر اشتراكًا، أو تتباعد تضادًا، وتتماثل حتى في الوزن وأشكال الحروف كالجهل والجبن والجفاء أو كالجدب والجرد والجفاف، والحقيقة أنه لا سر في هذا وإنما فيه غرابة، لأن الثلاثة هي أول عدد يجمع درجتي العدد، وهما الشفع والوتر، ولكنهم مع هذه الحيرة في الثلاثيات لا يستغربون الثنائيات، والكون كله مملوء بها وقائم عليها، والتقسيم كله راجع إليها، فهي محل السر وإن لم تكن محل الغرابة لكثرتها، كالليل والنهار والظلمة والنور، والخير والشر والحق والباطل، وفي الكون سماء وأرض وفي الاحياء ذكر وأنثى، وفي جوارحهم كثرة مزدوجة كالعينين واليدين، وفيما يختلفون فيه العفة والطمع، وفيما يقتتلون عليه الجوع والشبع، وفيما يتدافعون عليه الحرية والعبودية، وفي أخراهم النار والجنة، وفي دنياهم المدرسة والسجن ...

هذه فلسفة فارغة، ولكن في بعض جوانبها مجالي للعبر، وجوالب للتفكير، فالدنيا أخت الآخرة أو ضرتها وفي كليهما متقابلات يؤدي بعضها إلى بعضها، أو يدل بعضها على بعضها، فالمدرسة هي جنة الدنيا والسجن هو نارها ... والأمة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون، والأمة التي لا تصنع الحياة يصنع لها الموت، والأمة التي لا تعمل لنفسها ما ينفعها ويسعدها، يعمل لها غيرها ما يضرها ويشقيها، والأمة التي لا تحك جسمها بظفرها فترفق وتلتذ، تحكها الأظفار الجاسية فتدمى وتتألم، والأمة التي لا تغضب للعز الذاهب ترضى بالذل الجليب، والأمة التي تتخذ الخلاف مركبًا يغرقها في اللجة، والأمة التي لا تكرم شبابها بالعلم والتثقيف مضيعة لرأس مالها، والأمة التي لا تجعل الأخلاق ملاكها، أمة تتعجل هلاكها، والأمة التي تلد لغيرها- أمة تلد العبيد، لا أمة تلد الأحرار الصناديد، والأمة التي تعتمد في حياتها على غيرها طفيلية على موائد الحياة حقيقة بالقهر والنهر وقصم الظهر، والحياة بلا علم متاع مستعار، والوطن بلا علم عورة مكشوفة، ونهب مقسم، سنة من سنن الله كسنته في تكوير الليل على النهار.

<<  <  ج: ص:  >  >>