لطالما قرعنا أسماع أمتنا بهذه الحقائق في المجتمعات الحاشدة بالكبار والصغار والنساء والرجال، في دروس الوعظ الديني، وفي محاضرات الإرشاد الاجتماعي، وعلى منابر الجمع والأعياد، وضربنا لها الأمثال بالأمم حاضرة وغابرة، وأفهمناها أنه إذا كانت الدار مقبرة فالحياة فيها موت، وإذا كان الشارع ملهى فهو طريق إلى السجن، وأن المدرسة هي طريق الحياة وطريق النجاة وطريق السعادة، وان الوطن أمانة الإسلام في أعناقنا، ووديعة العرب في ذممنا، فمن بعض حقه علينا أن نحفظ دينه من الضياع، وأن نحفظ لسانه من الانحراف، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلّا بالمدرسة التي تبنيها الأمة بمالها، وتحوطها برعايتها، وتجعلها حصونًا تقي أبناءها الانحلال الديني والانهيار الخلقي وتحفظهم من ترف الغنى وذل الفقر، وتربيهم على الرجولة والقوة، وتوحيد النزعات، وتصحيح الفطرة، وتقويم الألسنة وتمتين الإرادات والعزائم، وتغرس الفضيلة في نفوسهم، وتصلح فيهم ما أفسده المنزل والشارع، وتروضهم على حب الوطن وبنائه طبقًا عن طبق.
وكأنما تلاقت كلماتنا الواعظة وآذان الأمة الواعية، في غمرة من غمرات التأثر والانفعال، والامتعاض للحال، والتشاؤم من المآل، فكان أثر ذلك تلك الهبَّة التي وضعت حجر الأساس لهذه النهضة، وأنتجت عدة مدارس في نواحي القطر المتفرقة، ثم تضاعفت الهبة من آثار الحرب المتناقضة في النفوس، فاشتد الإقبال على إنشاء المدارس، وسرت العدوى فولدت التنافس المحمود بين الجماعات والقرى، حتى أن المؤرخ ليعد- صادقًا- سنة ١٩٤٣ وما بعدها موسم حمى فائرة، أعراضها تأسيس المدارس، وهذيانها الحديث عن المدارس، وكان تشجيع جمعية العلماء لهذه الحركة المباركة- على ما فيها من أخطار الاندفاع- مبنيًّا على حكمة، وهي أن تثبيط الهمم المتوثبة تبريد للحمية الفائرة، وفي التبريد من الأضرار ما ان أيسره- في مثل أمتنا- معاودة الهجوع وهي قريبة عهد به، مع كثرة الأيدي المهدئة، وتجاوب النغمات المهدهدة، لإعادة النائم إلى نومه.
ثم تضاعفت الهبة لأوائل هذا الطور وهو سنة ١٩٤٦ وكانت في هذه المرة مستكملة البواعث، وضاعف رجال الجمعية جهودهم في التنشيط، وكان من آثار هذا المزيج من النشاط والتنشيط أن تم في هذه السنوات الخمس عدد من المدارس هي مفخرة الفاخر، وملجمة الساخر، ولئن كان من مفاخر الطور الأول للجمعية مدرسة دار الحديث بتلمسان ومدرسة تهذيب البنين بتبسة، وكان من مفاخر الطور الثاني مدرسة الحياة بجيجل، ومدرسة شاطودان، فمن مفاخر هذا الطور الأخير مدرسة ندرومة، ومدرسة سيق، ومدرسة وهران ومدرسة أبي العباس، ومدرسة تيهرت، ومدرسة الأصنام، ومدرسة الأغواط، ومدرسة بوفريك، ومدرسة سانت أوجين، ومدرسة حي بيلكور في الجزائر، ومدرسة قنزات، ومدرسة سطيف، ومدرسة العلمة، ومدرسة بسكرة، ومدرسة سكيكدة، ومدرسة عنابة، ومدرسة